المفاجآت والقرارات حول قناة السويس التي يحملها هذا الشريان الملاحي الحيوي بطول 193كم بين ضفتيه من السويس مرورا بالإسماعيلية ووصولا إلي مدينة بورسعيد فيها الكثير والكثير من انتصارات المصريين, ويتوزع الشريان الملاحي للقناة إلي شمال وجنوب البحيرات المرة وعرضيا إلي خطين ملاحيين, وهناك جزء كبير منها يمثل فرعين بينما هناك تفريعة واحدة تتوقف قبلها وبعدها السفن لتمر أحداهما من الشمال إلي الجنوب والأخري من الجنوب إلي الشمال تعطي كل قافلة من السفن وقتا من الانتظار, وهنا اعتبرت نفسي في تلك السطور ذاكرة التاريخ الحديث للأجيال المصرية وخاصة الجيل الصغير في المرحلة الابتدائية والذي يعد من أخطر المراحل التعليمية لبناء الجندي المصري ودعوني أسميها النقش علي حجر الذاكرة الوطنية المصرية والتي تحمل مستقبل أرض الوطن وحياة المصريين.
وهنا أطرح الفكرة إلي المدارس الابتدائية والخاصة بتحديد رحلة للطلاب لمعرفة تاريخ وهندسة بناء هذا الشريان الملاحي العالمي البارع لقناة السويس المصرية وجعل هؤلاء الطلاب يتعايشون مع العمل اليومي للقناة ابتداء من دخول السفن إلي المياة الإقليمية وكيف تعامل السفينة في كل محافظة من الثلاث وتماشيا في كل ما يحدث من خدمة ومعاملات وتحكم وتخطيط ملاحي وتحصيل الرسوم وتأمينها حتي الدخول للمياة الدولية وحتي يعطي كل عقل مصري صغير كيف استمرت للمصريين إدارة هذا المشروع بقوة وعناية وحماية فائقة منذ قرار التأميم المصري وما لديه من حكمة ونظرة أعادت حق كل مصري من الاستعمار الذي دام عقودا للقناة ونجاح الفكر والتخطيط للزعيم عبدالناصر ورفاقه في إدارة هذا المرفق الملاحي الحيوي الذي يؤثر في أكثر من 78% من حجم تجارة العالم بين الثلاث قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا, ويحضرني هنا العمر الزمني الذي قارب الـ150 سنة لنحكي كيف بدأت تلك الفكرة العبقرية والتي كانت عند الفراعنة قديما, ولكنها تعرضت لعوامل النحر والانسداد من الترسيبات الصخرية التي أغلقتها.. ويروي التاريخ أن عمرو بن العاص أعاد استخدام تلك القناة للتجارة بين أرض الحجاز ومصر واستمر ذلك إلي أن أغلقها الخليفة المنصور, ولكن لم يدون التاريخ تلك الفترة السابقة بالتفسير اللازم من الناحية الملاحية والأدوات الهندسية ولكن التاريخ المعاصر أوضح أن قدوم الحملة الفرنسية واقتراح نابليون مشروع ربط البحرين والذي توقف هذا المشروع عند مشكلة اختلاف مناسيب الارتفاعات لكلا البحرين إلي أن زار فرديناندو ديليسبس منطقة السويس مرورا بالإسماعيلية إلي بورسعيد وهنا أراد أن يتدرج بالمنسوب الأقل للبحر الأحمر إلي تلاقي منسوب المتوسط وهنا أقنع الخديوي سعيد عام 1854 وبدأ الحفر بالقناة عام 1859, وبدأت الأطماع الاستعمارية منذ بداية الحفر والذي جعل حق الامتياز للقناة 99 سنة بداية من افتتاحها للملاحة, وهنا يظهر الصراع الإنجليزي لقناة السويس والتي تستحوذ عليها فرنسا والتي تبعها الاستعمار الإنجليزي لمصر ولم يكن لدينا القرار حيث إن الشريان الملاحي يخضع لدول الاستعمار.
واشتعلت الصراعات واندلعت الحروب بين الدول الكبري وتوقفت خلال الملاحة في هذا الممر الملاحي العالمي 8 مرات بدأت في 1882 لمدة يومين بسبب الاحتلال الإنجليزي لمصر ثم المرة الثانية في 10 يونية 1885 عندما اصطدمت كراكة بسفينة شحن دامت لمدة 11 يوما ثم المرة الثالثة في 2 سبتمبر 1905 جراء اصطدام سفينتين اشتعلت إحداهما وتوقفت الملاحة لأكثر من 10 أيام ثم توقفت المرة الرابعة في الحرب العالمية الأولي 1915 بسبب غرق كثير من السفن في مدخل ميناء بورسعيد وبعدها توقفت لأكثر من سنتين بسبب الحرب العالمية عام 1940, بينما غرقت إحدي سفن الشحن في مدخل القناة عند بورسعيد عام 1952 وتلاها غرق أكثر من 48 قطعة بحرية ما بين سفن وقاطرات سحب وقطع بحرية بسبب العدوان الثلاثي علي مصر جراء قرار للزعيم الراحل جمال عبدالناصر كي يعود حق القناة المسلوب للمصريين.
واستثمر الزعيم عبدالناصر في تعميق القناة إلي غاطس من 35 إلي 37 قدما وإنشاء هيئة ترسانة السويس البحرية وتشييد أول أسطول مصري للكراكات البحرية.. ثم توقفت أيضا الملاحة في القناة نتيجة حرب يونية 1967, ولقد استمر إغلاق القناة لأكثر من 8 سنوات قام القائد الزعيم محمد أنور السادات بتنظيف القناة من الألغام والسفن العالقة والغارقة وأعيد افتتاحها للملاحة العالمية عام 1975 وشهدت القناة خلال فترة السادات كثيرا من أعمال الصيانة والترميم وكذلك التعميق والتوسيع للمجري الملاحي حتي يستوعب ثقل السفن وكذلك الغاطس عام 1980.
ولم تكن حركة التجارة العالمية وقتها كبيرة غير أن عمليات نقل وتجارة البترول وقتها كانت ذات الأهمية ولم يتم تطوير صناعة السفن وزيادة أحجامها وارتفاع عمق الغاطس لديها ذات أهمية أيضا كانت هناك الكثير من المحاولات للذهاب إلي بدائل للطرق بعيدا عن قناة السويس فتارة تحاول السفن الذهاب للمرور حول القارة الأفريقية من المحيط الهندي إلي الأطلنطي دخولا عبر ما يسمي طريق رأس الرجاء الصالح إلي المتوسط وتارة نسمع عن خط السكك الحديدية الذي تسعي إسرائيل لبنائه من ميناء إيلات علي البحر الأحمر إلي ميناء أشدود علي المتوسط بطول 870 كم والتي يعتمد علي استقبال البضائع من السفن داخل خليج العقبة من خلال الأوناش وتحميلها علي قطارات سكك حديد إلي أشدود في رحلة تستغرق 6 أيام, وهناك تارة أخري نسمع عن نجاح بعض السفن التي تستخدم الطاقة النووية في تفتيت أجزاء من المتجمد للربط بين آسيا وأوروبا وكانت آخرها السفينة الروسية منسيك التي قضت مدة رحلتها لأكثر من 10 أيام ولكن رغم كل ذلك تبقي قناة السويس الشريان الملاحي الآمن والسريع.
وتستمر ملحمة المصريين في تحديث وتطوير المجري الملاحي ليتماشي مع التحديات الأكثر تهديدا لإيرادات القناة وهي ظهور أساطيل السفن العملاقة وتجارة الحاويات حيث كانت متوسطات السفن التجارية مابين 50 ألفا إلي 120 طنا إلي تكنولوجيات الحاويات والتي وصلت حمولتها إلي متوسطات تفوق 250 ألف طن وتحتاج إلي غاطس أطوال إلي أكثر من 60 قدما وكانت تحتاج وقتا كبيرا كي تمر تلك الحاويات بتفريغ حمولتها إلي عدد كبير من السفن حتي تمر ويعاد تحميلها مرة أخري وأيضا فترة الانتظار بين قافلتي الشمال والجنوب والتي تحتاج إلي 11 ساعة فرق.
ومن هنا كان القرار الذي اتخذه الزعيم عبدالفتاح السيسي كي يتم استعادة القناة للمنافسة والتحدي للسنوات القادمة وأعطي إشارة البدء في شق القناة الجديدة بطول 35 كم كي تكون القناة بفرعين كاملين لسهولة حركة الملاحة علي طول القناة دون توقف وأيضا تعميق القناة ليصل الغاطس إلي 66 قدما تسع كل الحاويات العملاقة والتخطيط والبدء في تشييد منطقة قناة السويس كمنطقة لوجيستية متقدمة التكنولوجيا تشمل كل ما تحتاجه السفن من وقود وتحميل وتخزين وتجارة ترانزيت ومناطق حرة تتماشي مع ما يستهدفه الاقتصاد الحر الذي تسعي مصر جاهدة لتطبيقه وزيادة حجم الاستثمار من هذا الشريان الملاحي بالإضافة إلي زيادة أرباح المرور من القناة.. ويبقي الدرس إلي كل أبناء مصر كي نحافظ علي قناة السويس التي تتوارثها الأجيال بالمستويات التنافسية التي تجعلها دائما أهم مرفق ملاحي عالمي.. وإلي تكملة قادمة.