وأخذ يوزع العمل, في حكمة وحسن تدبير قسم العملية, وأشرك معه الجميع وجعل البعض يرممون ما هو إلي جوار مساكنهم, والكهنة أيضا اشتركوا في العمل بنوا باب الضان, وقدسوه واقاموا مصاريعه… وهكذا يأتي أبواب أورشليم الأثني عشر. اشتغل الكل فيها, وفي إقامة المصاريع والأقفال والعوارض… بدراسة دقيقة لمداخل المدينة…
إن حسن التدبير أمر لازم, يجب أن يتصف به أولاد الله والقائمون علي الخدمة.
ليس في الأمور الدنيوية فقط, بل في أمورالكنيسة… ولذلك تشترط قوانين الكنيسة أن يكون الأسقف جيد التدبير.
وكذلك الكاهن, وقد استطاع أن يدبر أهل بيته حسنا لأنه إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته, فكيف يعتني بكنيسة الله؟! (اتي 3: 4 ـ 5). ويقول الكتاب عن القسوس المدبرين حسنا فلحسبوا أهلا لكرامة مضاعفة (اتي 5: 17). بل يقول الكتاب حيث لا تدبير وبتدبيره سار العمل حسنا ولكن نجاح نحميا أغاظ أعداءه فقاموا ضده.
بدأوا أولا بالتهكم, وهزأوا بالعمل: ماذا يعمل هؤلاء الضعفاء؟! هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة؟! إن مايبنونه, إذا صعد ثعلب عليه يهدم حجارة حائطهم!
وكان نحميا يتلقي هذا الاستهزاء والتحقير, ويقول: اسمع يا إلهنا, لأننا قد صرنا احتقارا, ورد تعبيرهم علي رؤوسهم (نح 4: 1ـ4).
لا مانع أن يتعرض أولاد الله للتعيير والتحقير!
فالسيد المسيح نفسه تعرض لهما, وقيل عنه محتقر ومخذول من الناس, ظلم, أما هو فتذلل ولم يفتح فاه 0اش 53: 3ـ7) والقديس بولس قال عن نفسه وعن زملائه في الخدمة بمجد وهوان, بصيت حين وصيت رديء (2 كو 6:8)
صبر نحميا, واحتمل لكي يكمل العمل, ولم يمنعه الاستهزاء عن تكملة عمله.
إن طبيعة الذين لا يعملون, أن يحقروا العاملين.
ماذا فعل سنبلط الحوروني, وطوبيا العموني وجشم العربي؟! لا شيء لقد تعبوا في داخلهم, أما نحميا فلم يتعبه تحقيرهم, يقول نحميا ولما سمع سنبلط أننا أخذون في بناء السور, غضب واغتاظ كثيرا (نح 4:1)… ولما سمعوا أن أسوار أورشليم قد رممت, والثغرات قد ابتدأت تسد, غضبوا جدا, وتآمروا جميعهم معا, ان يأتوا ويحابوا أورشليم ويعملوا بها ضررا (نح 4: 7ـ8)
ولما وصل الأمر إلي التآمر والمحاربة, بدا نحميا في عمل الحراسة والدفاع.
حقا إن المزمور يقول إن لم يحرس الرب المدينة, فباطلا سهر الحارس (مز 127:1) ولكن هذا لا يمنع من أن يؤدي الخدام واجبهم في الحراسة, وفي الدفاع. وهكذا فعل داود في حراسة غنمه (1 صم 17: 34, 35). وقد قيل عن الرعاة الذين بشرهم ملاك الرب بميلاد المخلص إنهم كانوايحرسون حراسات الليل علي رعيتهم (لو 2:8)
لذلك فإن نحميا أقام حرسات للعمل, إذ قال الأعداء ندخل إلي وسطهم ونقتلهم ونوقف العمل (نح 4: 11)
عجيب أن تصل العداوة إلي هذا الحد, ويسمح الله أن يوجد أعداء يحاربون هكذا؟!
لم يقم نحميا بأي عمل ضدهم. ولكن نجاحه أزعجهم إن النجاح دائما يزعج الشيطان أولا, والشيطان في حسده وحقده يستخدم أعوانه, لكي يوقفوا العمل!
إن نحميا لم يخف من مؤامرة أعدائه, ولا من تهديدهم بقتله بل قال للقادة وللشعب لا تخافوهم, بل اذكروا السيد العظيم المخوف (نح 4:14)
وإذا بنحميا رجل الصلاة والإيمان, يتحول إلي قائد صلب قوي إن عمله الجبار في الحراسة والدفاع, لا يمنع إيمانه بحراسة الله له, إن تقدم داود بمقلاعه لمحاربة جليات, ليس ضد إيمانه إذ يقول اليوم يحبسك الرب في أيدي لأن الحرب للرب, وهو يدفعكم ليدنا 1 صمم 17: 47,46). فماذا فعل نحميا إذن؟
كان نصف غلمانه يشتغلون في العمل, ونصفهم يمسكون الرماح والأتراس والقسي والدروع… أما البناءون وعملهم فكانوا يبنون. وسيف كل واحد مربوط علي جنبه… باليد يعملون العمل, وبالأخري يمسكون السلاح, والنافخون بالبوق مستعدون لجمع الكل وقت اللزوم (نح 4: 16 ـ 20)
ومع كل هذه الحراسة ووسائل الدفاع ختم نحميا استعداداته بقوله إلهنا يحارب عنا (نح 4: 20).
وفي اهتمام نحميا بمقاومة الأعداء, لم يغفل عن المقاومة الداخلية ضد الذين يضعفون معنويات الشعب.
كان الأغنياء يقرضون إخوتهم بالربا, ويستولون علي حقوقهم وكرومهم وبيوتهم, أو يضعونها تحت الرهن وزاد صراخ الشعب من ذلك (نح 5: 1ـ5)
وكان لابد لنحميا كمدبر حكيم, أن يحمي الجبهة الداخلية فوقف بقوة ضد ءولئك الكبار. ووبخ العظماء والولاة وأقام عليه جماعة عظيمة ومنعهم من أخذ الربا من إخوتهم ليس فقط من جهة المستقبل, بل عمل علي إصلاح الماضي أيضا, فقال لهم: ردوا لهم في هذا اليوم حقوقهم وكرومهم وزيتونهم وبيوتهم… والذي تأخذونه منهم ربا (نح 5: 11)
وهكذا أصلح الأمر, واستحلفهم علي الاستحابة وهددهم بأن نفض حجره أمامهم, وقال: هكذا ينفض الله كل إنسان لا يقيم هذا الكلام…. ويكون منفوضا وفارغا. وقال كل الشعب أمين (نح 5:13)
وأقام نفسه مثالا عمليا أمامهم في النزاهة وعدم استخدام سلطته لنفعته, كوال عليهم
لقد صار واليا 12 عاما, من السنة العشرين إلي 32 من حكم ارتحشستا الملك.
طوال هذه المدة لم يستخدم امتيازاته, فلم يأكل من خبز الوالي ولم يأخذ من الشعب اتاوات كما فعل الولاة الذين قبله. بل كان يدعو الكثيرين إلي مائدته (مائة وخمسين)… وكان يذبح لهم ويطعمهم ويسقيهم (نح 5: 14ـ18).
واكمل بناء السور وقبل أن يقيم مصاريع الأبواب, طلب الأعداء أن يتفاهموا معه. فرفض.
أرسل إليه سنبلط وجشم أن يجتمع معهما للتشاور فرفض وقال لهما إني أنا عامل عملا عظيما, فلا أقدر أن أنزل إليكما. لماذا يبطل العمل إذ اتركه. وأرسلوا إليه بذلك خمس مرات فلم يستجب لهما (نح 6: 1ـ5)
إنه لم يرد أن يعطل عمله الإيجابي, من أجل الحوار مع أشخاص لا يريدون سوي العداوة.
وحسنا فعل إذ كانا يفكران أن يعملا به شرا (نح 6:2)
إن الحوار لا يفيد إذا كانت النية غير سليمة, والقلوب غير نقية…
وأوغر أعداؤه إلي بعض إخوة كذبة يحيطون به, أن ينصحوه بالهروب إلي الهيكل لكي يحتمي به لأنهم مزمعون أن يقتلوه, فرفض وقال لهم أرجل مثلي يهرب؟!.. لقد عرف أنهم قد استؤجروا ضده. وقال عن ذلك لكي أخاف وأفعل هكذا وأخطيء, فيكون لهم خبر رديء يعيرونني به (نح 6:13).
أخيرا استذاع نحميا أن يبني السور, ويقيم المصاريع, ويرتب البوابين, ويقيم الحراسات.
كل شيء تم ترتيبه بدقة وجعل نظاما لغلق الأبواب وفتحها, بمواعيد. وأقام حراسات من سكان أورشليم, كل واحد علي حراسته وكل واحد مقابل بيته (نح 7:1ـ3).
لقد اهتم بعمله الإيجابي, ولم يبال بالسلبيات وماذا كانت نهاية العاملين في السلبيات يقول نحميا ولما سمع كل أعدائنا, ورأي جميع الأمم الذين حوالينا, سقطوا كثيرا في أعين انفسهم. وعلموا أنه من قبل الهنا عمل هذا العمل (نح 6:16).
إن نحميا رجل واحد, ولكنه استطاع أن يغير الصورة, ويحول الظلام إلي نور. بإيمانه وصلاته, وبقوته وعمله, وبتدبيره مثابرته, وبشجاعته وعمل خوفه. وبعدم تضييع وقته في السلبيات ومقاومة الأعداء..
انتهي من بناء أسوار أورشليم وترميم أبوابها, ولكن ماذا فعل من جهة البناء الروحي؟
هذا ما أود أن أحدثكم عنه في العدد المقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.