* الفتق السري بعد الطفل الثالث.. وحصوات المرارة بعد الطفل الأخير!!
* التهاب الزائدة الدودية يفاجئ الطبيب في حجرة العمليات.. وكانت الجراحة الثالثة!!
كثير من المشكلات نحن نضعها بأنفسنا.. الله يريد لنا السعادة والراحة والهدوء وكل ما هو حسن وجميل, لكن البعض يغمض عينيه ويعرج عن الطريق ويصنع بنفسه وتصرفاته المشكلات.. يأتي بها حتي ولو كانت بعيدة عنه, وبعدها يصرخ ويتألم ويندم.. هذا ليس بجديد أنه منذ بدء الخليقة, وقصة خطية أبينا آدم وأمنا حواء مازالت أمام عيوننا رغم تعاقب الأجيال لقرون بعد قرون, ولكن البعض يغفلون عيونهم ويتناسون ويمضون في الطريق المعوج.
الكل يعرف ويتذكر جيدا تفاصيل قصة سقوط الإنسان وخروجه من الجنة عندما خالف آدم وحواء وصية الله.. منذ أسابيع جاءتني سيدة شابة تجاوزت بقليل الأربعين من عمرها لكنها تتألم وتئن وتشكو.. سنوات مريرة عاشتها في وجع مستمر.. كل منغصات الجسد تتملكها.. آلام المرارة والفتق والزائدة تحيط وسطها فلا تعرف طريقا للنوم ولا للراحة ولا للأكل والشراب والحركة ولا للحياة كلها.. وعندما اصطحبناها في رحلة معنا من أجل شفائها كانت المفاجأة أنها هي التي صنعت كل هذا لنفسها, وجاءت لجسدها وروحها بكل هذه الآلام, وعلي الفور ذكرتني قصتها بأمنا حواء.. لم تسمع النصيحة, ولم تستجب لدعوة الإرشاد, ومشيت في طريق المخالفة, وها هي تواجه الآن الألم التعب والشقاء.. قصة قد تتكرر من حولنا كل يوم ونحن لا ندري.. ولكن مع حنان استوقفتني.. وأدعوكم هذا الصباح لتتعرفوا معي قصة الأم الشابة التي لم تستجب للنصيحة فعاشت سنوات شبابها في ألم ومرارة.
في حي شبرا العتيق ووسط تكدس سكاني كان ينذر بالخطر في ذلك الوقت من عام 1975 ولدت حنان وعاشت طفولتها وشبابها وسط أسرة بسيطة مع ثمانية أشقاء وكانت هي بكريتهم, ووسط هذا الحشد من الأخوة والأخوات حرص والدها علي أن تتعلم وتلتحق بالمدارس, إلي أن حصلت في عام 1993 علي دبلوم التجارة المتوسطة, وعانت كثيرا في البحث عن عمل إذ كانت القوي العاملة في ذلك الوقت قد أغلقت أبوابها ولم تعد الحكومة تلتزم بتعيين الخريجيين, وظلت تتنقل من وظيفة إلي أخري بين مؤسسات القطاع الخاص.. عدة شهور في مكتبة, وبضع سنوات في جمعية أهلية, وسنوات أخري في عيادة طبيب.. وهكذا مضت بها الأيام شاكرة ربها حامدة فضله إلي أن جاءها ابن الحلال وذكاه أب اعترافها, فهو شاب من أبناء كنيستها ويعرفها خير معرفة, شارك معها في الخدمة وزاملها في عدة رحلات, ومن أسرة متقاربة المستوي مع أسرتها, ويعمل نجارا في مصنع للموبيليا.. وعندما رتب لهما الرب الارتباط في حياة جديدة, كانت إمكانياتهما محدودة, وأزمة المساكن في الحي العتيق الذي عاشت فيه قد تجاوزت كل الحدود, وككل شباب ذلك الجيل فكرا في بدء الحياة في مكان بعيد هروبا من أزمة المساكن, واختارا أقرب مكان لأسرتيهما, فوقع اختيارهما علي شبرا الخيمة لكنهما اضطرا للذهاب الي أقصي أطرافها, وكان من نصيبهما المنطقة العشوائية التي تعرف باسم أم بيومي.
هناك بدأت حنان حياتها الزوحية وهي علي أعتاب الثلاثينيات من عمرها تداعبها أحلام المستقبل الوردية.. لكن كانت أول مشكلة واجهتها, النزول يوميا من أقصي شبرا الخيمة إلي شبرا مصر, حيث تعمل بإحدي المحلات, والتنقل بين الميكروباصات والأتوبيسات إذ لم يكن مترو الأنفاق قد شق طريقه تحت الأرض, والعودة في نهاية اليوم بعد مشقة صعبة وقاسية مع المواصلات.. ولم يعد أمامها حل إلا أن تترك وظيفتها وتمكث في بيتها المتواضع, خاصة وأنها كانت تنتظر مولودها البكر بعد عدة شهور وتعاني الكثير من متاعب الحمل.
وما واجهته حنان واجهه زوجها أيضا.. وفكرا كثيرا في حل للخروج من أزمتهما, إلي أن قرر الزوج أن يستقطع حجرة من منزلهما الصغير ويحولها إلي ورشة نجارة ونجحت الفكرة, وبدأت الحياة تبتسم لهما.. شهور معدودة ورزقهما الله بقرة أعينهما مارينا التي أنستهما ببراءتها وشقاوتها كل متاعب الحمل.. شهور وبدأت حنان تستعد لاستقبال المولود الثاني, لكن هذه المرة كان درس السماء قاسيا.. متاعب الحمل فاقت احتمالها, وأكد لها الطبيب المتابع أنها حامل بتوأم.. وظلت لشهور تواجه آلاما شديدة إلي أن جاءت رحمة الله ووضعت ابنتيها ميرا و ميراي.. لكن آلالام وإن كانت قد خفت إلا أنها لم تنته إذ كانت عضلات البطن قد ترهلت وأصابها فتق سري والمعروف عنه أنه من أبشع المشاكل عند الحامل.. كان هذا منذ تسع سنوات, وعلي امتداد هذه السنوات ظلت حنان تواجه الألم في صمت وتدفنه داخلها, ليس لأنه محتمل ولكن لضيق ذات اليد وعدم القدرة علي توفير تكاليف الجراحة.
كان هذا في عام ..2010 وهنا لا أقصد الإشارة إلي عدد السنوات التي ظلت تعاني فيها حنان من ألم الفتق, ولكني أقصد أن أشير إلي أنه في زمن زادت فيه التوعية الإنجابية, ونشطت الدولة في الدعوة إلي الحد من الزيادة السكانية, والأكثر في توعية الأمهات لمشاكل تعدد الحمل.. وكان من المفترض أن الدرس قد وصلها جيدا, فهي من أكثر من واجهن متاعب الحمل, وأنعم عليها الرب عليها بثلاث بنات.. لكن حلم الطفل الذكر ظل يراودها رغم كل المتاعب الصحية والمعيشية التي تعيشها.. وبعد أربع سنوات جاءت بالمولودة الجديدة سارة لتحمل رقم أربعة في تعداد أطفال الأم التي تواجه منذ سنوات الفتق السري بكل آلامه.
وحتي إلي هنا أيضا لم تع حنان الدرس, وبدأت تستعد لاستقبال الطفل الخامس, إلي أن وصل كيرلس منذ ثلاث سنوات.. هنا كانت آلام الفتق السري قد وصلت إلي الدرجة التي لا يحتملها إنسان.. زاد من قسوة الألم أنها بدأت تعاني منذ عامين من وجود حصوات بالمرارة في الوقت الذي ثقل حملها ما بين احتياجات خمسة أطفال, وقلة الدخل, وارتفاع الأسعار, ولم يعد في مقدورها أن توفر حتي قروش قليلة ثمنا لتذكرة كشف في مستشفي عام.. ولأن الرب أراد لها خيرا صادفها أحد الآباء الكهنة يخدم في كنيسة بعيدة عنها بعدة أميال لكنه يعرفنا ويعرف خدمتنا, تعاطف معها الأب الكاهن المعروف عنه بطيبة القلب ـ القمص إبرآم سعد ـ وأعطاها خطاب تزكية يرجونا فيه مساعدتها.. وكانت بداية رحلة جديدة من رحلاتنا لشفاء المرضي وراحة المتألمين.
رحلتنا مع حنان لم تكن صعبة.. كانت تعرف تماما وبكل التفاصيل ما تعانيه.. الفتق السري الذي عايشته تسع سنوات كانت تعرفه في كل حركة تتحركها وفي كل لمسة يد مع جنين يتحرك في بطنها.. الحصوات التي تسللت إلي مرارتها منذ عامين كانت تعرفها من شدة الآلام التي كانت تطرحها علي الأرض تتمرغ وسط دموع أطفالها.. ولأن جراحات الفتق السري وحصوات المرارة ليست جديدة علينا فكم أصطحبنا أصدقاء لنا علي امتداد رحلاتنا مع المرضي والمتألمين, لهذا ـ كما قلت من قبل ـ رحلتنا مع حنان لم تكن صعبة.. كنا نعرف الطريق أكثر الأطباء نبوغا ومهارة وخبرة في هذه الجراحات هو الدكتور طلعت حلمي مدير مستشفي مارمرقس بشبرا, فضلا عما فاض به الله عليه من بشاشة وطيبة قلب وإنسانية يندر وجودها في هذا الزمن.
وكان تدبير الرب يسبق تدبيرنا.. كنا نعرف أن الدكتور طلعت خارج البلاد, وعندما اتصلت بالمستشفي لمعرفة موعد عودته فوجئت بوجوده في أول يوم له بعد عودته من رحلته لأمريكا.. وهنا أدركت أن يد الرب معنا, وأن عنايته بالأم حنان تسبق اهتمامنا, فهو يعرف من قبلنا وأكثر منا كم هي تتألم وتعاني.. وكان الطريق إلي حجرة العمليات سهلا ممهدا.
* الدكتور طلعت حلمي ببشاشته المعهودة حدثنا مطمئنا:
** الأمر أبسط مما تتصورون فقد أصبح الفتق من الأمراض الشائعة في حياتنا اليومية, ونحن نشاهده بشكل يومي تقريبا في عيادة الجراحة, ورغم ما يسببه من أعراض مؤلمة ومزعجة للمريض فقد تطورت وسائل علاجه وأصبحت من عمليات اليوم الواحد التي تجري خلال وقت قصير.. ربما مما يزيد من قلقكم أن المريضة تواجه أيضا مشاكل في المرارة وهو بالفعل أمر ليس بالسهل لأن إنسداد المرارة بحصوة يؤدي إلي ارتجاع العصارة للكبد ومنه إلي الدم ومن هنا تصبغ كل أنسجة الجسم باللون الأصفر وهو التشخيص الشائع لالتهاب المرارة عندما تأخذ العين والجلد اللون الأصفر ويصبح البول في لون الشاي, ولكن مما يهون الأمر أن التخلص من كل هذا صار أمرا سهلا باستئصال المرارة بالمنظار.
* كلمات الدكتور طلعت حلمي أراحت الأم حنان وأدخلت الطمأنينة إلي قلوبنا, وفي الموعد المحدد دخلت حجرة العمليات تسبقها دعوات أطفالها الصغار.. نحو ساعة ونصف ساعة ظلت عيوننا أمام حجرة العمليات معلقة بالسماء, بعدها خرج الدكتور طلعت حلمي مبتسما معادته يرافقه الفريق الطبي الذي لازمه ـ أثناء العملية ـ الجراح المساعد الطبيب الشاب دكتور أندرو طلعت حلمي, وأستاذ التخدير الدكتور سمير زكريا ـ لم أكن أريد أن أرهقه بعد كل هذا لكنه بادرني مطمئنا:
** نشكر ربنا كل شيء صار حسب ما خططنا.. بدأنا بالمنظار لاستئصال الحويصلة المرارية وكانت أشعة الموجات الصوتية التي أجريت قبل دخول حجرة العمليات قد أوضحت ما تعانيه من التهاب بالمرارة نتيجة ما تجمع بالحويصلة من حصوات.. بعدها كان التدخل الجراحي لعلاج الفتق وتركيب شبكة لتقوية جدار البطن الضعيف, وانتهت أيضا بسلام.. المفاجأة كانت فيما تلاحظ لنا من التهاب مزمن بالزائدة الدودية وعلي الفور قمنا باستئصالها.. حقيقي كانت يد الرب معنا.
الآن عادت الأم حنان إلي أسرتها الصغيرة الكبيرة ـ صغيرة الأعمار, كبيرة العدد ـ عادت بدون آلام ولا وجع.. زوجها في ورشته التي تشاركهم حياتهم اليومية يزعجهم بدقات الشاكوش وهزات المنشار.. ابنتها الكبيرة مارينا تستعد لأول عام دراسي في مدرستها الإعدادية.. ابنتاها التوأم ميرا و ميراي أزاحتا عنها مشقة توصيلهما إلي المدرسة بعد أن كبرا وستذهبان للصف الرابع الابتدائي.. سارة التي بلغت من العمر خمس سنوات تذهب بها كل صباح إلي الحضانة التي تبعد لمسافة ليست قصيرة.. كيرلس آخر العنقود.. عطية الله التي انتهت معه سلسة الحمل المتكرر يتنقل خلفها متشبسا بذيل فستانها يتتبع خطواتها كخيال المآتة.. الأسرة الصغيرة الكبيرة صورة لنعم الله الكثيرة في حياتنا.. وللرب نقول: شكرا