يقول الكاتب الساخر برناردشو: إن قصاص الكذوب ليس في ارتياب الناس بصحة كلامه, بل في عدم استطاعته تصديق كلام الناس.
لماذا يكذب الناس؟ لماذا يتسلح كثير من الأشخاص بسلاح الكذب وعدم قول الصدق؟ نستطيع أن نجيب علي هذا بما نختبره في معاملاتنا اليومية مع الآخرين, يكذب الإنسان بسبب خوفه أحيانا, أو يكذب استيحاء من الآخرين, وهنا يفضل اعتبار الناس علي رضي الله, كما أنه يوجد من يكذب للزهو والمباهاة وخاصة بما لا يملكه من قدرات ومواهب وإمكانيات, ويوجد من يكذب ليغش البسطاء والضعفاء ويخدعهم, وهذا أسوأ أنواع الكذب.
يصرح ميكافيللي لأحد أصدقائه قائلا: منذ فترة وأنا لا أقول ما أعتقد به, كما أني لا أصدق ما أقوله, وإذا قيل لي الصدق, أنا أخفيه بين طيات أكاذيب كثيرة ليصعب الوصول إليه, هذا هو حال الكثيرين الذين يخدعون الناس بأساليب ملتوية ومعوجة, هنا يفتخر ميكافيللي بأنه كاذب في قرارة نفسه, وتنتج هذه الآفة من التشاؤم الجذري في مواجهته الآخرين, وهذه التجربة القوية تدفع الكثيرين إلي الكذب في لحظات الخوف, ونحن نعيش الآن ثقافة وفلسفة الصورة والمظاهر التي تدفعنا إلي الخداع الذي يصل بنا إلي الكذب حتي علي أنفسنا, كما أن هناك أشخاصا مقتنعون تماما بالكذب إلي درجة أنهم يسقونه للآخرين, حتي يخرج بأناقة, وفي هذا الصدد يعلمنا السيد المسيح أن نكون صادقين قائلا: ليكن كلامكم نعم نعم, ولا لا, وما زاد علي ذلك فهو من الشرير (مت5:37).
لذلك يجب أن نلتزم الصدق ونخلص له لا سيما في عمل الخير, ويقوم هذا الإخلاص علي أن نصدق في القول والفعل, وألا نأتي في السر ما نستحي منه علانية: أي لا نكذب ولا ننافق ولا نخادع, حتي لا ندع الفرصة للناس أن يشكو في إخلاصنا ويفقدون الثقة فينا, لأنه إن فقدت الثقة, ضاعت الشخصية, وفسدت طرق التعاون, وحظيت الحياة بالفشل بين الناس.
وللأسف كما يقول الفيلسوف الفرنسي Denis Diderot: نحن نصب أنهارا من الكذب لخداع الناس, لكننا نتجرع قطرة قطرة من الحقيقة لأنها تبدو لنا مرة لأننا إذا قمنا بمراجعة أنفسنا, سنكتشف بأن الغالبية العظمي تفضل مديح الناس وكلامهم المعسول, عن قول الحقيقة المرة أو النقد البناء الذي يساعد علي التغيير للأفضل.
نجد أناسا في مجالات عدة يلعبون بالآخرين عن طريق الكذب والخداع, ونكتشف أن الإنسان الذي فقد الشهامة والإنسانية, لا يتسني له الاحتفاظ بمركزه ووظيفته في المجتمع, ما لم يلجأ إلي الكذب والرياء, ولكن عندما يكتشف كذبه للجميع, يموت ذلك الشخص دينيا وأخلاقيا واجتماعيا, والكذاب لا يهمه الخلق والتهذيب وثقة الناس, لأنه بكذبه يبرهن علي أنه لا يحترم ذاته, فكيف ينتظر الاحترام والتقدير من الناس؟ ويقول المفكر Joseph de Maistre: الأكاذيب تشبه العملات المزيفة, قام بسكها شخص غير أمين, ويقوم بصرفها أمناء ومخلصون, وهم يثبتون الجريمة دون أن يدركوا هذا, ومن الطبيعي أن يحدث معنا ما يشابه هذا عندما نتبني بعض الآراء أو الأخبار دون تمحيص, ونقوم بترويجها بين الآخرين, كما يتم مثل هذا مع بعض الأشخاص الذين يستخدمون عملات مزيفة ويتداولونها دون دراية بذلك ليسيروا بها أعمالهم, لذا إذا كانت الأكاذيب ظاهرة ستصبح واضحة علي الملأ ومن الممكن ضحدها ورفضها ومقاومتها, لكن هناك أكاذيب مغلفة بالصدق دون أن يشعر بها الناس, ومن ثم تقنع الغالبية العظمي بتصديقها والأخذ بها, لذلك نحن بحاجة إلي اللقاح الدائم ليوقظ العقل والضمير أمام كل رأي أو خبر.
ما أجمل هذا القول: علمتني الحياة ألا أسأل الكاذب لما كذبت, لأنه حتما سيجيبني بكذبة أخري, ويوجد ثلاثة أنواع من الكاذبين: من يجري الكذب في دمهم ويكذبون ليجملوا صورتهم, المراؤون الذين يكذبون ليتجنبوا مواجهة الآخر, أخيرا هؤلاء الكاذبون الذين يبررون ذلك قائلين: فهمونا خطأ وللأسف الأكاذيب ولادة بطبيعتها, واحدة تلد مائة, ونحن نجد كل يوم الأنواع الثلاثة من هؤلاء, لكن الإنسان الصادق لا يخاف من الآخرين أو ما يقولونه عنه ولا يجامل أحدا, وكما يقول شكسبير: إذا كنت صادقا, فلماذا تحلف؟, فالصدق شجاعة, أما الكذب فجبانة لأنه نتيجة خوف الناس وتحدي الله الذي حرمه, وكما يقول المثل: الصدق ينجيك وإن خفته, أما الكذب يرديك وإن أمنته, لأن من أضرار الكذب علي صاحبه, أنه متهم به وإن تحري الصدق, فإذا حاول تجنب الكذب, كذبه الناس بحيث لا يبقي له في اعتبارهم حديث ذو مصداقية.
والكذب لا يستر الهفوة, ولا يخفف من السقطة, بل يزيدهما وضوحا وثقلا, ويقول أرسطو: الكذابون خاسرون دائما ولا سيما أن أحدا لا يصدقهم حتي ولو صدقوا, لأن الكذاب لا تقبل شهادته لا في نفسه ولا في أصدقائه.
إذا, ماذا يجب أن نفعل؟ أن نتحلي بالصدق في معاملاتنا وحواراتنا ونتحصن بالحقيقة التي تنبع من أناس صادقين, لأن خلاف ذلك, سنصل إلي العزلة التامة الناتجة عن خوفنا من الآخرين أو الغش والاحتقار, وللأسف هذا الطريق يسلكه الكثيرون في أيامنا هذه لأنه الطريق الأسهل والمريح, وكما يقول الكاتب الفرنسي Albert Camus (ألبرت كامي): لن أجرب أبدا تعديل وتكييف ما أفكر فيه, أو ما تفكرون فيه أنتم لأصل إلي المصالحة المقبولة من الجميع, كل ما أبتغي قوله لكم اليوم هو أن العالم بحاجة إلي الحوار الصادق, لأن عكس هذا الحوار سيكون الكذب, ولن تكون هناك إمكانية هذا الحوار إلا في وجود أناس تظل كما هي وتتكلم بصدق. وهنا يعلمنا الحوار الصادق دون إجبار الآخر علي تغيير رأيه, لكن أن نعرف ذواتنا مع احترام هوية واختلاف الآخر, ولا يعني الحوار معه أن نقنعه بآرائنا, ولكن نستخدم فن الموسيقي المبني علي وجود أصوات مختلفة في ذات الوقت مع الانسجام التام بينها, كما أن الحوار الصادق يغير المفاهيم الخاطئة والمشوشة.
ونختتم بكلمات الفيلسوف أفلاطون: من ضرر الكذب أن صاحبه ينسي الصورة الحقيقية المحسوسة, ويثبت في نفسه الصورة الوهمية الكاذبة, فيبني عليها أمره, فيكون غشه قد بدأ بنفسه.