يا إله الآباء ويارب الرحمة…هب لي الحكمة الجالسة معك إلي عرشك…(حكمة9:1-4) من منا لا يرغب في نوال الحكمة؟من يدعي بأنه يملك المعرفة كلها؟نجد صفحات كاملة في سفر الأمثال توضح الفرق بين الحكمة والجهل,الحكيم والجاهل,لذلك يقول الكتاب:لاتوبخ الساخر لئلا يبغضك,وبخ الحكيم فيحبك(أمثال8:8) يحكي أن أحد التلاميذ الغيورين,كان يطمح في أن يعلم الحقيقة للآخرين فذهب إلي أحد المعلمين واضعا بين يديه هذه الرغبة فكانت الإجابة بكل بساطة:انتظر لمدة عام!ففعل هكذا ولكنه عاد العام التالي بنفس الاشتياق وكان الرد كما سبق مما جعل التلميذ يفقد الأمل مضطرا أن يسأل المعلم:إذا….متي سأكون علي استعداد لتعليم الأخرين؟فأجابه: عندما تتخلص من وسواس تعليم الناس يجب أن نضع في الاعتبار ذلك:كلما عرفنا أكثر,إذا نحن بحاجة إلي التعليم أكثر لأنه مع المعرفة تنمو بنفس الدرجة عدم المعرفة,أي أن ندرك جيدا بأننا لانعلم.يمتلك البعض معرفة يعلوها الغبار والأنانية حتي أنها لا تسمح بأي تعاليم جديدة ولكنهم يكتفون بالقليل الذي يفتخرون به,كما أنهم يدعون التحلي بالذكاء وامتلاكهم كل مفاتيح الحقيقة والكون محتقرين أفكار وآراء الغير.هذا الادعاء الباطل يتحدي الله والبشر,كما أن أصحابه يتخيلون أنفسهم كالله الذي يعلم كل شيء,لكن الحكيم الحقيقي يتحلي بالتواضع والوداعة ويعلم تماما حدوده, ولديه القناعة الكاملة بأن المعرفة لها أوجه كثيرة ومختلفة,والإنسان الحكيم يكتسب حكمته من تجاربه ويتعلم من تجارب الغير وكما يقول المفكرCantone il Censore:الحكماء يحصلون علي مكاسب من الجهلاء وليس العكس,لأن الحكماء يتجنبون أخطاء الجهلاء بينما الجهلاء لايقتدون بنجاحات الحكماء.
فالحكيم يتأمل الحياة من حوله ويحاول أن يفهمها صانعا طريقا مستقيما ليسير عليه,فالحكمة ترتبط بالتجارب والخبرات وليس بطول العمر أو المنصب أو الغني,فالإنسان تصقله الأيام والسنون بما تحمله من تجارب وآلام ومحن.والحكمة التي نتعلمها ليست لؤلؤة نفيسة نحتفظ بها داخل صندوق يغلق عليها,ولكنها بذرة تنمو وتثمر سنبلة مليئة بالبذور,وعلينا أن نوفر لها المناخ المناسب لتنمو بداخلنا,لأن جراما واحدا من التجربة يعادل أطنانا من النظريات.كان المعلم يسأل أحد تلاميذه الذين رغبوا في التعليم منه:ماذا تبحث؟ فأجابه:أريد حياة مبنية علي الإيمان والفعل!أجابه المعلمإذا أردت أن تحيا هكذا,يجب أن تموت الكلمات لأن من يريد أن يعلم الآخرين,فعليه بمسيرة طويلة واستعداد شاق مع القناعة في أن التعليم الحقيقي ليس مهنة ولكنه رسالة حب,ونجد هذا عند المربيين والآباء والأمهات الذين يتحلون بالمحبة تاركين الكلمات تختفي ليظهر المثال الصالح الذي يتحدث عن نفسه.
كما أن الحكيم يستطيع أن يميز بين ماهو نافع وضروري وما هو لاجدوي منه كم من الإعلانات والدعاية تغزونا وتقتحم منازلنا عن طريق شاشة التلفاز؟فالحكيم يستطيع أن يستغني عن كل ماهو غير نافع ولا طائل منه,حتي أنه يمتلك الإرادة في أن يحرر عقله ويطهر قلبه من كل هذه.
أيضا الشخص الحكيم يعلم جيدا بأنه مازال يجهل أمورا لاحصر لها,فيتحلي بالتواضع والإصغاء للآخرين والرغبة في البحث والاستطلاع كما أنه يعتبر نفسه سائحا وجوالا في طرق الوجود والكون ويعترف بأنه لايملك الحقيقة ولكن يمتلك قليلا منها وكما يقول السيد المسيح,كونوا كالحيات حاذقين وكالحمام ساذجين(متي10:16). إذا من أراد أن يبحث عن الحقيقة يجب أن يتحلي بالتقوي والتواضع, كم من أناس فقدوا التقوي عندما أرادوا أن يغوصوا فيما يفوق إدراكهم؟فالله يفتح القلوب النقية,ويحجب نعمته عن المتكبرين من ينكر أن العقل البشري ضعيف وعرضه للضلال؟وكما يقول إسحق نيوتن:إن العقل الإنساني ليس إلا طفلا يلهو في الرمال علي شاطئ محيط الحقيقة.إذا فالحكيم هو من يتحلي بالبساطة والوداعة لأنه كلما نضج في التفكير والعلم والمعرفة يشعر بأنه ليس أفضل من الآخرين ولا يحتقرهم ويتحلي بالشجاعة في أن يقف لحظة مع ذاته ويتأمل فيها ويعرف أخطاءه ويتجنبها كما أنه يكتشف أخطاء الجاهل ويتعلم منها دون أن يستهزأ به لكن الجاهل لايجيد التعليم من الحكيم بل من الممكن أن يصيب الآخرين بعدوي جهله حتي يصيرون مثله.ونختم بكلمات سقراط الذهبية:إذا أقبلت الحكمة انتصرت العقول علي الشهوات وإذا أدبرت انتصرت الشهوات علي العقول.