التقيت بتماف مريم عدة مرات كان أولها عام 1992 وكانت “وطني” بصدد عمل تحقيق عن كنيسة العذراء حالة الحديد الأثرية بزويلة، وكيف أن الكنيسة كانت تغمرها المياه الجوفية وتجري في جوانبها، وبالطبع ذهبنا إلى الدير دير العذراء فهو مبني على اطراف الكنيسة لنبحث فى المراجع التاريخية التي توضح أثرية المكان وزيارة العائلة المقدسة للمنطقة، وعندما قابلت تماف مريم رئيسة الدير علمت أن هناك مكتبة فى الدير بها العديد من المخطوطات التي توضح أثرية مجمع زويلة كلا من كنيسة العذراء وكنيسة مارجرجس والديرين “دير العذراء ودير مارجرجس” وفتحت أمنا مريم المكتبة، وجلست يوم كامل بها لنقل كل ما يتعلق بكنائس زويلة من هذه المخطوطات، وسمحت لي بحضور القداس الذي كان يقام خصيصًا لراهبات الدير بكنيسة الدير داخل الدير، وكان يرأس القداس فى ذلك الوقت المتنيح القمص داود عبدالمسيح كاهن كنيسة العذراء حالة الحديد بزويلة، ولم يكن مسموح لأفراد الشعب حضور هذا القداس فهو فقط للراهبات، وعهدت في أمنا مريم الحكمة والإتزان الشديد فى الكلام، والوداعة المقرونة بالحزم، لم أكن أتخيل أنني سأدخل الدير لأتحدث عن المتنحية تماف مريم.
داخل الدير
استقبلتني أمنا ماريا، المتولية حاليًا شئون الدير بحارة زويلة لحين تولي رئيسة للدير، وهذه هي إجابات الأسئلة على لسان أمنا ماريا والتى تعد أقدم من عاشر تماف مريم حيث ترهبنت بالدير بعد شهرين من رئاسة تماف مريم للدير.
كان الدير فقير جدا وكان به 16 راهبة ومعظمهن غير متعلمات وبسطاء ذوي ظروف خاصة، وكان الدير قبل مجئ تماف مريم بابه مفتوح على الشارع طوال اليوم ولا يغلق إلا ليلاً، وأهالي الراهبات يدخلوه فى أي وقت ويصعدون مباشرة لقلايات الراهبات وقد يستمر الأهالي في الدير لمدة أسبوع مثلاً مقيمين فيه.
وعندما تولت تماف رئاسة الدير جاءت ومعها البركة والنظام، منعت صعود أهالي الراهبات إلي القلايات الخاصة بهن وخصصت فى الدور الأول حجرات لاستضافة الزوار والأهالي والزيارة بمواعيد مرة كل أسبوع، والدير زيارته بمواعيد لأفراد الشعب من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءاً يوميًا.
وخصصت دورات مياه للضيوف بالدور الأول ولا أحد يصعد للدور العلوي الخاص بالراهبات وفي أيام الأصوام الزيارة لأخذ بركة كنيسة الدير فقط ولا يسمح لأهالي الراهبات بأي مقابلة لهن، لكل راهبة قلاية خاصة بها ولكن هناك شركة في الطعام والصلاة والتسبحة.
المعلمة
وكانت الراهبات قبل مجئ تماف مريم لا يصلين التسبحة ولكن بعد رئاستها للدير كانت تقوم بتعليم التسبحة لكل راهبة فى قلايتها فكانت تأتي إلى قلايتي ومعها إثنين من الراهبات وتجلس معنا على الأرض لتعلمن التسبحة وكانت تقيم صلاة شركة للراهبات الساعة الخامسة يوميًا، وتقيم درس للكتاب المقدس بعد الصلاة، وكانت تجلس معنا جلسات فردية لتستمع إلينا ولحل المشاكل التي قد تكون واجهتنا، وأقامت مشغل وعلمتنا بنفسها الخياطة وأشغال الإبره والكورشية وكانت تنظم العمل للراهبات داخل الدير من العاشرة صباحًا حتى الواحدة ظهراً وراحة بعد الغذاء والعمل مرة أخرى فترة مسائية قبل الصلاة، وأصبح يوجد للدير أربع بوابات، بوابة منهم علي الشارع أو الحارة لدخول الشعب بعيداً عن الراهبات.
ولمن ترغب من الراهبات حضور القداس من كنيسة العذارء حالة الحديد من خلال نوافذ علوية بالدير تطل علي كنيسة العذراء حالة الحديد، والراغبات فى التناول يوجد سلم تنزل منه الراهبات إلى الكنيسة مباشرة عند التناول، ومن المشاكل التى واجهتها أن ناظر كنيسة العذراء حالة الحديد “متري خريستو” كان مخصص له حجرة داخل الدير وضع فيها متعلقاته وكان يصعد فيها في أي وقت لشرب القهوة غير مبالي بأنه دير للراهبات، وكان في ذلك الوقت البابا كيرلس السادس يستقبل رئيسات الأديرة كل يوم خميس صباحًا في المرقسية بكلوت بك ليستمع إليهن ولأي مشاكل تقابلهن فذهبت تماف مريم وأخبرت البابا بهذا الأمر، وبالفعل تدخل البابا وأجبر ناظر الكنيسة بإخلاء الغرفة، وقامت تماف بضم الحجرة بسياج حديد، ولم يسمح له بالصعود إلى الغرفة بعد ذلك.
التعمير
وعندما حدث زلزال أكتوبر 1993 كانت حيطان الدير مشبعة بالرطوبة وعلى وشك الانهيار فقامت بهدم معظم الجزء الذي يضم قلايات الراهبات، ووضعت كل ثلاث راهبات في قلاية في الجهة اليمنى، وأقامت مباني جديدة بها قلايات للراهبات ودورات مياه فاخرة وأصبح لكل راهبة قلايتها.
قصة دير النوبارية
وتكمل أمنا ماريا حديثها وتحكي كيفية إقامة دير وكنيسة كبيرة بالنوبارية قائلة:
تعبت كثيرا تماف في البحث عن مكان هادئ يستوعب عدد أكبر من الراهبات، وبحثت في كل مكان حتى في الصعيد، وفي الإسماعيلية والخطاطبة، وعندما استشارت البابا شنودة في هذا الأمر أوصاها أن تأخذ أرض بها مياه ولا تحتاج إلى طلمبات لسحب المياه حيث تصاب بأعطال وتتسبب في مشاكل، ولكن تقول أمنا ماريا كما جاء على لسان تماف مريم نفسها في أحد أحاديثها بأحدى الفضائيات المسيحية أن اختيار أرض النوبارية كان من يد الله، فكان صاحب المزرعة مسيحي توفي في حادث ونشر ورثته إعلان لبيع المزرعة أكثر من مرة بجريدة الأهرام وكان اسمها مزرعة الأرانب لأنه لم يكن فيها سوي حظائر للأرانب، ووجدت المزرعة تطل على ترعة، أي متوافر بها مياه كما أوصي البابا شنودة.
وتقول تماف مريم بمجرد دخولنا المزرعة شعرنا بهدوء وسلام، وتم شراء المزرعة عام 86 وحتى يتم تعمير المكان لم نعلن أنه تابع لدير ولكن العمال كانوا يأتون بعربات بالنفر من الاسكندرية وعند نزولهم كان الكمسري يقول محطة الدير، وعلمنا أن الشيطان فتن علينا وكشف الأمور وواجهنا مصاعب أثناء التعمير ولكن بقوة الرب يسوع وشفاعة أم النور كنا نتغلب عليها حتى عندما كنا نضع أساسات الكنيسة والمباني لم يكن يوجد نور ولكن العمال رأوا القديسة العذراء تجول حول المكان ونور شديد أضاء مكان وضع الأساس استمر لمدة ساعة ونصف وكأن العذراء بنفسها كانت تدشن المكان وكل من كان يأتي للمكان كان يشعر بسلام وهدوء نفسي، ولقد قام البابا تواضروس بتدشين الكنيسة الكبيرة بالنوبارية.
ورغم لكل راهبة قلايتها إلا أننا نعيش حياة شركة في الصلاة والطعام والعمل وفي المطبخ، ويوجد مع الكنيسة الكبيرة “الكاتدرائية” كنيسة في المبني الجديد (الخاص بقلايات الراهبات والتي وصل عددها إلى 95 قلاية) كنيسة باسم القديس ابسخيرون القليني وكان في الماضي أب اعتراف الراهبات هو من يقوم برسامة الراهبات، ولكن بعد ذلك كان يقوم بالرسامة قداسة البابا شنودة الثالث وجاء لرسامة عدد من الراهبات بالنوبارية الأنبا باخوميوس وكان معه البابا تواضروس وكان أسقف قبل أن يصبح البابا.
شروط الرهبنة عند تماف مريم
وتكمل أمنا ماريا، كان في الماضي كما ذكرنا الراهبات يدخلن دون حتي شهادات وقد لا يعرفن القراءة والكتابة، ولكن الشروط الأساسية التي وضعها البابا شنودة الثالث أن تكون الراهبة أو الراهب جامعي ولا يتعدي سن الراهب 26 سنة ولا يقل عن 21 سنة ولكن تماف مريم كانت تضع الراهبة تحت الاختبار حوالي 3 سنوات خلاف أوقات ترددها علي الدير قبل تقدمها للرهبنة فترة كافية قد تصل لسنة أو أكثر، وكانت تشترط تماف موافقة الأهل على رهبنة الأبنة حتى لا تحدث مشاكل فيما بعد.
الإسكيم
وتذكر أمنا ماريا أن هناك ثلاث راهبات من أكبر الراهبات وأقدمهن حصلن على إسكيم الرهبنة، وقد تنيحن وكان ذلك فى رئاسة تماف مريم للدير وهن “هيلانة ومصطافيه وسوسنا”.
شهادات عليا
ويوجد بالدير الآن راهبات يحملن شهادة الدكتوراه، ومنهن طبيبات، ومهندسات زراعيات، ومهندسات…
قديسة
وفي حديث مع أمنا تكلا وهي من الأمهات اللاتي عاصرنا أمنا مريم سنوات طويلة تحدثت عن أمنا مريم من الناحية الروحية فقالت:
التحقت بالدير كراهبة منذ عام 1971 وكل ما أعلمه عن تماف مريم أنها كانت تحبنا جدا وكانت عطوفة وكانت تعلمنا التسبحة داخل قليتنا، وكانت تستمع إلينا كل واحدة على حدى وتشاركنا مائدة الطعام وإذا مرضت إحدى الراهبات توليها عناية شديدة وترسلها للعلاج خارج الدير اذا اقتضي الأمر إلي إجراء جراحي أو الذهاب الي طبيب متخصص وكان لديها شفافية وإذا صلت لأمر ما أو مشكلة وتتشفع بالعذراء مريم لابد وكانت تحل المشكلة، وأتذكر أن نيافة الأنبا يوليوس “أسقف مصر القديمة حالياً” كان يأتي إلى دير النوبارية عندما كان راهبًا وقبل أن يصبح أسقف بسنوات كانت تقابله تماف مريم ضاحكة كلما تراه وتقول “أهلاً بأبونا الأسقف”، وقبل رسامته أسقف بأسبوع واحد عندما دخل الدير كانت الأجراس تدق فقالت له “خلاص أنت حتبقي أسقف” وفي نفس الأسبوع تم رسامته أسقفًا.
وأتذكر أيضا أنه كانت هناك فتاة في الحارة أبويها اعترفوا لي أن ابنتهما لديها مشاكل واذا تزوجت لن تنجب ولكنها تزوجت بعد ذلك وتماف مريم قالت لها هتبقي أم يوسف وبعد ذلك انجبت طفل واسمته يوسف، وأظن أنها كانت تعلم موعد نياحتها فكنت مع أمنا ماريا في زيارة دير النوبارية يوم الخميس أي قبل نياحة تماف مريم، وكنا ننوي السفر يوم الجمعة صباحا ولكن تماف مريم اصرت بشكل عجيب أن نظل في الدير وقالت “خليكوا وامشوا يوم الاحد” وظلت معنا في صلاة الساعة السابعة يوم السبت وبعد الصلاة جلست معنا حتى الساعة الواحدة فجرا، وذهبت إلي قلايتها ولكنها استدعتنا بعد دقائق وقالت انا تعبانة والدكاترة الراهبات بالدير احطن بها ووضعنا لها ماسك اكسجين ولكنها توفت بعد ذلك بقليل قبل مجئ عربة الإسعاف رغم مجئ السيارة بسرعة وهذه كانت مشيئة الله حتى تتنيح وسط بناتها بسلام فى ديرها، ومزار مدفنها بدير النوبارية حاليًا.
تماف مريم فى سطور
· ولدت عام 1933 بالخرطوم من أب وأم مصريين.
· عاشت فى القاهرة بمنطقة مصر الجديدة وكنيستها كانت العذراء ومارمرقس (كليوباترا).
· ألتحقت بدير أبى سيفين عام 1966 وكان عمرها 33 سنة وكانت تشغل منصب مدير بشركة “شل” للبترول قبل دخولها للدير.
· كلفت برئاسة دير العذراء الآثرى بحارة زويلة عام 1969 في حبرية البابا كيرلس السادس.
· قضت 54 عام فى الحياة الرهبانية وكانت رئيسة لدير العذراء بزويلة 48 عاماً.
· رقدت فى الرب فجر الأحد 15 أكتوبر عن عمر يناهز 84 سنة.
· يوافق قداس الأربعين يوم 23 نوفمبر، وسيقام القداس بدير العذراء بالنوبارية.