“أستاذة جورجيت”.. هكذا كنا نسميها، كل أولادها في وطني.. ليس لأنها أكبر منا قليلاً في السن وعلى درجة عالة من الخبرة فقط، بل لأنها علمتنا الكثير في الحياة العملية والإنسانية..
شخصية مبتسمة وضحكتها منورة وبنت نكتة، كانت تخفي كم من التجارب والأتعاب داخلها وتمشي وسطنا في الجريدة ليفيض حنانها علينا جميعاً..
توصل وطني وتدخل كل مكان فيه لتحيي الجميع وتسأل عن الكل، وإن وجدت وجه متجهم أو شايل الهم كانت حياتها والتزاماتها كلها تقف لتسمع وتتفاعل بكل جوارحها مع هذا القلب الحزين، تسمع وتنصح وإن كان في وسعها تقديم مساعدة لن تتردد لحظة حتى تضفي ابتسامة على هذا الوجه الحزين، وفي الأخر يخرج من فمها بعض النكت ليضحك الجميع وتنهي كلامها بذكر المعزي الأكبر إلهنا الحي الذي يسندنا جميعاً.
أكثر إنسانة جادة في عملها عرفتها في حياتي، فكانت تدقق في الحرف والكلمة التي تخرج منها، فمن ناحية المعلومة التي تقدمها للقارئ كانت حريصة على أن تقدم جرعة علمية للبنيان وتوسيع المدارك سواء في مجال العلم أو الصحة أو من خلال طرح قضايا وأزمات تهم المجتمع من خلال “اهتمامات مصرية”.
لم أقابل في حياتي صحفي عنده هذا القدر من المتعة وهو يكتب موضوعاته، فكانت تحب ما تكتب وتنغمس في كل موضوع بكل جوارحها، وتعيش في الموضوع كأنه أهم مادة قدمتها في حياتها، كانت مبدعة وبرعت في كل ما كتبت.. ولو أتيح لها الفرصة لاستطاعت ملء صفحات الجريدة كلها بعلمها والقضايا المجتمعية التي تنشغل بها، فهي كانت صحفية شاملة وعلى درجة عالية من الثقافة.
أما من ناحية الدقة، فلم أجد شخصية تؤرق قسم الديسك مثلها، ليس لأنها شخصية صعبة بل لأن دقتها كانت تجعل المراجع عاجز عن تعديل أي حرف في كلامها.. وكانت تجادل حتى الموت من أجل عنوان مناسب أو معلومة هامة.
لن أنس تليفوناتها ورسائلها في الفجر، وهي تراجع أي مادة منشورة على موقع جريدة وطني لتتابعني بأهمية تصحيح أخطاء وقعت عيناها عليها، وهذا لم يتم في إطار موضوعاتها فقط، بل كانت مدققة حتى في أخبار كل الصحفيين الآخرين، فكانت قارئة وناقدة عظيمة وحبها لوطني لا يضاهيه حب..
برغم علمها وخبرتها، لم تتأخر عن حضور أي تدريبات للصحفيين لتتعلم المزيد من تقنيات العصر وتطور من نفسها، فكانت تتواجد وسطتنا بكل تواضع وتسمع المحاضرات بكل تركيز واهتمام. وكل هذا ما جعلها من أقدر الصحفيين عند مصادرها ولدى قارئها، وجوائز الدنيا لن توفيها حقها فيما قدمت في حياتها المهنية.
على المستوى الشخصي، لن أنس صوتها في التليفون وهي تبدأ كلامها “أيوة يا دينا” لتتكلم عن موضوع ما، وتسترسل في الكلام سواء بالشدة أو اللين لإقناعي بكلامها وفي النهاية أي قضية نتكلم عنها لم تؤثر لحظة في قدر الود الذي نكنه بعضنا لبعض.
فكانت تداوم السؤال عن كل فرد في عائلتي – من الكبير للصغير، وتلاحقني برسائل تعزيات كلما شعرت أن قوتي تخور وسط التجارب، أو رسائل تشجيع أينما قدمت عمل جيد.
وأحلى فرحة كانت عندما تدخل مكتبي وتقدم لي هدية بسيطة من المنتجات المصرية التي كنا نعشقها ونقدرها نحن الإثنين، وما أجمل جلساتنا بعد معارض المنتجات المصرية التي كنا نعشقها ونتبادل روايات العارضين وصور المعروضات سوياً.
برغم حياتها الصعبة والتجارب الكثيرة التي مرت بها، لكنها كانت تحب الحياة وتحب كل من حولها، حتى أن كل من تعامل معها شعر أنه له مكانة في قلبها كبيرة جداً.
جورجيت صادق.. كما عرفها الجميع.. ستبقى وسطنا بعلمها وتفانيها وجديتها على المستوى العملي، وحبها وحنانها ومساعدتها لكل واحد منا على المستوى الإنساني.. أسرة وطني خسرت ورقة عظيمة من شجرتها اليوم والسماء تفتح لها ذراعيها الأن، فهنيئاً لك يا حبيبتي فردوس النعيم.