قضية الموت من أهم القضايا التى شغلت الإنسان على مر الزمان منذ وجوده فى العالم، ذلك لأن الموت هو الحقيقة المطلقة التى يعرفها ويتعامل معها دائما، وهو ليس شرا وأنما الواقع أن الموت نعمة للبشر وأن الله شاءت حكمته أن يموت الإنسان بعد رحلة حياته حتى تعيش الأجيال الجديدة فى سلام وتستمر فى هناء.
لنفترض أن الإنسان لا يموت، وأن الأجيال القديمة منذ الاف السنوات مازالت على قيد الحياة، هل تتصور ماذا كانت تصبح عليه حياتنا أذن؟
هل كان العالم الذى يضيق بنا الآن يتحمل هذا العدد الهائل من السكان؟
أنا لا أتصور ولا أتخيل ذلك لأن معناه أن الناس ستأكل بعضها وتخطف الطعام والشراب، وإذا كان الموت موجودا هذه الأيام ونجد الأبن يقتل أباه، والأب يقتل أبنه، والأم تستغنى عن أبنائها، والأبن يقتل أمه ويعذبها ويرمى بها فى الشارع لكى يتزوج فى شقتها، فماهو الحال أن لم يكن الموت موجودا؟.
الموت فى الحقيقة نعمة من عند الله، حتى يصبح الإنسان إنسانا ويستمر الحب بين الأجيال والتعاطف وكل القيم الاخلاقية والدينية، نعمة وجود الموت تدل على أن الله يحبنا ويريد لنا حياة سعيدة، رغدة وخيرة.
هكذا الموت نعمة وحكمة من الخالق حتى لا نصبح كالحيوانات والمخلوقات غير العاقلة ويصبح للبشرية تاريخ وحضارة، وواجب على كل فرد أن يضيف للحياة شيئا جديدا، محاولا الرقى بالحياة وبالإنسانية، وهذا ما يفعله الناس دائما فى كل مجتماعتهم، العمل الجاد والعرق من أجل تحسين الحياة والنهوض بها، وبخاصة الموهوبون والعباقرة الذين يعتصرون ويسهرون من أجل الحياة.
وتبحث عن سبب ذلك فتجده الحب، الحب العظيم، حب الإنسان لأخيه الإنسان ولأخوته البشر أن يعمل القلة من أجل الأكثرية، ويشترك الجميع فى عزف موسيقى الأمل والسعادة والبهجة لكى نتمتع جميعا بحياتنا وحبنا لبعضنا.
الموت إذن نعمة وحكمة وحب من الخالق العظيم لنا جميعا، من هنا يجب علينا ألا نخاف الموت ونرتعد من اسمه، ونعتبره مرحلة ثانية بعد الحياة، ثم لماذا لا يكون الموت مفتاح لحياة ثانية جميلة رائعة؟
بعض الادباء والعلماء والعباقرة كتبوا عن الموت بطريقة موضوعية تدفع فينا حب الموت، او على الاقل لا تخيفنا منه.
كاتب هذه السطور لا يريد أن يحببك فى الموت بل ان تعتبره مرحلة عادية فلا تخف منه.
الاديب الروسى تولستوىTolstoi 1828- 1910م عندما جاءه الموت وهو فى محطة القطار، اضطجع على سرير ناظر المحطة الحديدى وهو يردد:
(هذا حق.. هذا أروع.. لوكنت أعرف أن الموت رائع هكذا لاستدعيته منذ وقت طويل..).
الشاعر والاديب والفنان الهندى طاغورTagore 1861- 1941م كانت أخر كلماته:
(أنا على يقين أنى سأحب الموت كما احببت الحياة..).
الفنان الالمانى العالمى بيتهوفن Beethoven1770-1827م كتب وصيته والقى نظرة الوداع على حوله وقال:
(صفقوا.. صفقوا يا رفاق فقد انتهت المهزلة..).
فيلسوف الصوفية وصوفى الفلاسفة الشاعر الهندى:
محمد إقبال صاحب فلسفة الذات قال عن الموت:
( أنى مسلم لا أرهب الموت أذا جاء الموت لقيته مبتسما.).
يقول القديس بولس الرسول، فيلسوف المسيحية:
(الموت ربح لى، لى إشتهاء أن انطلق وأعود الى هناك، ذاك أفضل جدا..).
الفنان الموسيقار البولندى الفرنسى العالمى شوبانChopin 1810-1849م أوصى قبل وفاته بأن ينثروا عليه بعد موته حفنة التراب التى أحتفظ بها من وطنه بولندا قبل سفره الى فرنسا والعيش فيها، رمزا للحب الصادق لبلده،كذلك طلب بصوت متهدج وهو على فراش الموت:
(عندما أنتهى أعزفوا لى شيئا من الموسيقى، فسوف أسمعها من العالم الاخر..).
الشاعر العربى التونسى الثائر: أبو القاسم الشابى الذى رحل فى عمر الزهور 1909- 1934م صاحب القصيدة المشهورة: ارادة الحياة، ودع الحياة والاصدقاء بقصيدة: الصباح الجديد، والتى يقول فيها:
الوداع الوداع ياجبال الهموم
ياضباب الاسى ياحجاج الجحيم
قد جرى زورقى فى الخضم العظيم..
ونشرت القلاع.. فالوداع الوداع
نحن نؤمن بان حياتنا على هذه الارض جزء من حياتنا فى هذا الكون الكبير والموت بالنسبة لنا هو انتقال من هذه الحياة الى حياة اخرى، نرجو أن تكون أفضل، انتقال من حياة الالم الى حياة الراحة، حياة المرض الى حياة الصحة والعافية، حياة مؤقتة الى حياة دائمة.
الحب فى حياتنا يجعلها جميلة وحلوة مهما كان فيها من اوجاع واتعاب ومصائب، يكفى أن يكون قلبك مفعم بالحب لكى تسعد بحياتك وتحلى مشكلاتك وتنظر نظرة متفائلة الى المستقبل، وتكون متاكدا بان خالق هذا الكون العظيم خلقنا لانه يحبنا، وهو الحب الحقيقى، ويستحيل على من يحب فعلا ان يكره، الله خلقنا بالحب الذى يعيش فى مناخ الكراهية ليس انسانا، ولن يشعر بقيمة الحب التى تدفعنا الى خدمة الاخرين والعمل بل والسهر من اجلهم، فالحياة هى الحب، والحب هو الحياة.
خلقنا الله بالحب وللحب، ولانه احبنا قبل ان نعرفه، فقد خلق لنا الجنة لكى نتنغم ونتمتع بها. وهناك سؤال يلح على دائما، وقد سالته لعديد من رجال الدين فى كل الاديان وهو: هل خلق الله الجنة او فردوس النعيم قبل جهنم أو بعدها؟ ولم اجد إجابة من احد فالجميع يقول انه لا توجد نصوص تدل او تجيب عن هذا السؤال.
وكاتب هذه السطور يؤمن ويعتقد ان الله- سبحانه وتعالى- خلق الجنة أو الفردوس أولا وقبل جهنم، لأنه خلقنا بالحب وللحب، ومن كثرة حبه لنا خلق الجنة لنعيش فيها ونرقى بالسعادة والهناء، وهذا مجرد اجتهاد شخصى..
سؤال أخر قد يسأله البعض.. اذا كان الموت هو الحقيقة المطلقة فى حياتنا، واننا سنرحل كلنا من هذا العالم، وهناك حياة أخرى تنتظرنا، فهل يمكن لأى منا أن ينتحر ويتخلص من هذه الحياة المتعبة ويستعجل الموت طمعا فى الحياة الاخرى؟
الرسالات السماوية كلها تحرم الانتحار، لان حياتك ليست ملكك بل هى ملك للخالق الذى ابدعها والذى وهبك هذا العمر، وهى اولا واخيرا ارادته هو، فكيف تعترض عليه؟.
وحتى الفلاسفة يرفضون الانتحار وقتل الانسان لنفسه.
وهذا أبو الفلسفة سقراط Socrates470- 399 ق.م. يقول:
( لا يحق لك الانتحار، لأنك لست ملكا لنفسك بل أنت ملك لله..) وعن الموت يقول:
( الفيلسوف يريد الموت لأنه انفصال الروح عن الجسد الذى يكبلها بالأغلال ويمنعها عن رؤية الحقيقة).
هناك بعض الفلاسفة يؤمنون بأن الحياة تنتهى بموت الإنسان ولا توجد حياة ثانية، مثل المصلح الصينى الكبير كونفوشيوس Confucius 551ق م- 479ق م.. سأله أحد تلاميذه يوما: ماذا بعد الموت؟
أجاب كونفوشيوس: أهتم بحياتك الدنيا وحاول أن تحل مشاكلها قبل أن تفكر فيما بعد الموت.
الفيلسوف الالمانى الملحد شوبنهورSchopnhauer 1788- 1860 م كان يكره النساء وكان ملحدا يعلن عن إلحاده وتشاؤمه من الحياة، بل ويطالب الناس بالأنتحار للتخلص من أتعابهم، الطريف أنه لم ينتحر!.
بالطبع أنه أيضا لا يؤمن بحياة أخرى لكنه أهتم بالعقل والارادة وكتابه المهم هو: العالم إرادة وفكرة.. الفلاسفة الملحدون بعامة لا يؤمنون بأن هناك حياة أخرى..
نحن نؤمن بحياة أخرى استمرارا لحياتنا على الأرض.
والموت ما هو إلا إنتقال، بل نحن متفائلون بالحياة الأخرى أيما تفاؤل، لذلك نعتبر الموت نعمة من عند الله وحكمة كبيرة ومهمة فى حياتنا، وهو يعبر عن حب الخالق العظيم لنا فى حياتنا وبعد مماتنا.
الإنسان مولود الحب، يولد نتجة للحب، ولا يعيش إلا بالحب، ويظل يحتاج ويتمتع بهذا الحب الى أن يوصلوه أحبابه فى حب الى القبر.
من أجل ذلك أقول دائما:
تفاءل حتى آخر يوم فى حياتك حتى الموت، بل تفاءل من الموت ذاته.