نردد دائما المثل الشعبى القائل: الصحة تاج على روؤس الأصحاء لايعرفها ولا يشعر بها إلا المرضى.. وهذا مثل واقعى صحيح، ومع ذلك نحن نردده ولا نشعربه فعلا.أحسست بواقعية هذا المثل وأهميته وأنا قعيد فى السرير لا أستطيع التحرك، أشعر بالملل الملول الحقيقى وأعرف اختلاف عقول الناس، الأقارب والأصدقاء والأحباء.شاء القدر أن تصدمنى سيارة وتكسر قدمى وأضطرت إلى اجراء عملية جراحية فى قدمى ووضع خمسة مسامير وشريحة وأمرنى الأطباء بعدم وضع قدمى المريضة على الأرض مدة شهرين بعد العملية، من الطبيعى أن ألتزم بأوامر الأطباء، سواء برغبتى أو رغما عنى، لأن هذه مصلحتى فى الأول وفى الآخر، بدأت فترة الالتزام والبقاء فى البيت وعدم المشى، هذه عملية صعبة قاسية، كيف لاأستطيع مثلا أن أذهب إلى الحمام، أو أدخل مكتبتى وأقلب فيها وأستخرج كتابا أريد قراءته؟! كيف أستطيع كتابة مقالاتى الأسبوعية فى الانترنت أو فى الصحف والمجلات الأخرى؟ وكيف أستكمل بعض فصول الكتاب الذى أكتبه الآن؟!أسئلة دارت فى ذهنى لم أجد اجابة شافية لها. فى الوهلة الاولى كانت هذه الأسئلة صدمة لى وعقبة معطلة، لكن لم تمر ساعات قليلة حتى عادت نفسى الى تفائلها المعتاد، وقلت هل مثل هذه الحادثة تعطلك وتمنعك عن ممارسة حياتك وكتاباتك التى هى مثل الماء والهواء لك؟ ووجدتنى رويدا رويدا أستطيع التعامل مع المقعد المتحرك وأذهب به الى كل مكان فى بيتى وأحاول التصرف كما كنت أفعل قبل العملية، بحيث أحافظ على قدمى المريضةولا ألمس الأرض وفى نفس الوقت أستطيع أن أقضى حاجاتى وحدى دون الإعتماد على أحد، وها أنا أكتب هذا المقال فى مكتبى وبين كتبى التى تمثل ثروتى العزيزة والكبيرة فى هذا العالم، ومن الطبيعى أن أكتب هذا المقال فى مكتبى وبين كتبى التى تمثل ثروتى العزيزة والكبيرة فى هذا العالم، ومن الطبيعى أن أكتب عن هذه التجربة الصعبة التى شاءت العناية الإلهية أن تجعلها بسيطة رغم كسر القدم، فقد كان يمكن للحادث أن يكسر الحوض أو الفخذ أو الذراع أو الرأس ولكن الله ستر.اعتبرت فترة الحبس الاجبارى للمرض فرصة للتفرغ للقراءة والتأمل والكتابة لو أمكن هذا، لأن المرض مع الألم الشديد الغير محتمل أحيانا يدفعان الإنسان وحتى الكاتب الى عدم التفكير السليم وعدم التركيز وعدم القدرة على الإمساك بالقلم.انتصرت على الألم وإنتهزت فترة تغيبه أحيانا فى الكتابة والقراءة، وأنا شخصيا متفائل فى حياتى أشعر أن غدا أفضل وهكذا، وشجعنى على هذا التفاؤل كاتبتا العملاق عباس محمود العقاد الذى كان يسكن فى بيت يحمل رقم 13 وكان يضع على مكتبه تمثال لبومة وهكذا، أنا متفائل ومع ذلك فمن الطريف أن الحادث وقع لى يوم 13 اكتوبر وبعد حديث ناجح فى برنامج صباح الخير يامصر أعجب المذيعة وكل السادة المشاهدين، لاأؤمن بالحسد ولا رقم 13 فكلها أيام الله التى تشهد أفراحا وأحزانا: تفاءل حتى الموت بل تفاءل من الموت ذاته، وهى عبارة خاصة بى لم اقرأها قبل ذلك.هذه التجربة لم تخلو من فوائد فالمرض يصهر نفس الإنسان ويضيف إليه الكثير، وقد استفدت من الملل الملول الذى أعيش فيه رغم أننى أحاول أن أشغل وقت فراغى، لكن عدم الحركة إلا قليلا وعدم القدرة على الخروج وحضور الندوات والصالونات والاجتماعات الأدبية والشعرية والجلوس مع الاصدقاء يشعرنى بالحبس الاضطرارى الذى اعانى منه والملل احيانا.الملل المللول عرفنى ايضا وفتح عينى على اختلاف العقول بين الناس وبعضهم البعض، ففى محنتى زارنى الكثير من الاقارب والاصدقاء والاحباء، هناك اشخاص زارونى وكانت علاقتى بهم ضيقة ومحدودة ومع ذلك شعرت بحبهم العميق وقلبهم الكبير، وهناك أشخاص وأقارب زارونى لكنى شعرت أنهم مجرد تقضية واجب يقدمون هديتهم ويعملون الواجب والله يحب المحسنين، أما الحب الحقيقى فهو غائب مريض، وهناك أشخاص آخرون لم يسألوا أو يتحدثون فى التليفون أو يزورونى بالطبع مع أننى أعمل معهم الواجب دائما، ويغضبون ان لم افعل معهم الواجب دائما، ويغضبون ان لم افعل معهم ذلك، هم يريدون ان يفعل الناس معهم الواجب وهم لا يفعلون ذلك، وهم صنف ردئ من البشر؟ يهربون من عمل الواجب الإنسانى ويطلبونه لهم دائما، وبصراحة هم لا يستحقون الاهتمام بهم فهم خارجون عن المنظومة الإنسانية.هكذا أعيش الآن الملل الملول وأتعرف على إختلاف العقول.