لا شك أننا نمر بلحظات نستمتع فيها بالصمت، كثيرا ما نتمنى أن يتوقف دفق الكلام والأصوات التى تأتى ممن حولنا أو من الشارع أو التلفزيون أو الإنترنت، نستمتع بالصمت لأننا نجد فيه فسحه للسكينة والتفكير والصفاء، نركن إليه عندما نستمع إلى ما يعجبنا من أصوات أو كلمات، ونتمناه عندما يصبح الكلام بلا معنى. كما أننا نتوق إليه ونحبه، فإننا نخشاه وأحيانا لا نستطيع تحمله، هكذا يكون الصمت ظاهرة حياتية مركبة لها أبعادها البيولوجية والثقافية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية.فمن الناحية البيولوجية والفسيولوجية، فإن البشر والحيوانات لديهم القدرة على إحداث أصوات، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة القدرة على الكلام والحديث. فالكلام ظاهرة بشرية، مع الأخذ فى الاعتبار أن من بين البشر من لا يستطيع النطق بكلمات لأسباب فسيولوجية أو مرضية كما هو الحال فى مراحل الطفولة المبكرة أو فى حالات العجز عن النطق. صحيح أن القدرة على النطق والكلام هى السبيل إلى التعبير، لكن أشكال التعبير متعددة، وتتجاوز حدود القدرة على النطق والكلام، فنحن نتحدث عن لغة الجسد والعيون والإشارة وحتى التواصل الروحى. ويُقال أن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام، كما أن القدرة على النطق والكلام لا تعنى بالضرورة القدرة على التعبير.
من ناحية أخرى، فإن الكلام والصمت موضع اعتبارات قيمية وأخلاقية، فكلاهما قد يكون مقدرا ومحمودا أو مزموما ومكروها. يقول المثل “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، ويُقال كذلك “خير الكلام ما قل ودل”، لكن بالمقابل فإن “الساكت عن الحق شيطان أخرس”. وتتعدد الأمثلة والأقوال على خطورة “اللسان”، وتشدد على أن الصمت يقى صاحبه. ولا يعنى هذا أن الصمت دائما هو الأفضل، بقدر ما يعنى أن الكلام هو الأخطر.يرتبط الصمت فلسفيا، بالحكمة والقدرة على التفكير والإنصات، وثقافيا واجتماعيا بالقدرة على حفظ الأسرار، وأخلاقيا يرتبط الصمت والكلام إرتباطا وثيقا بعلاقات السلطة والتراتبية الاجتماعية والتمييز ضد فئات بعينها، فضمنيا يندرج الصمت ضمن ما يسمى “آداب الحديث”، بمعنى متى ينبغى أن تتحدث ومتى ينبغى أن تصمت. وهذا لا يعنى أصول “الإتيكيت”، بقدر ما يعنى علاقات سلطة، فعلى الأقل شأنا أن يصمت إذا تحدث الأعلى شأنا. وللنساء نصيبهن الأكبر من سلطة الكلام والصمت، فقد يكون صوتهن عورة وصمتهن محبب، وهو دون إرادتهن، من علامات الرضا. وكلام “المجنون” أو “غير العاقل” لا يعتد به، فهو كصمته بلا معنى أو قيمة.
على المستوى النفسى، قد يكون الإفراط فى الصمت أو الكلام أعراضا لاعتلالات نفسية، ومع ذلك قد يكونا طريقة فى التعبير أو الاحتجاج، وفى حالات كثيرة يحل الصمت لأن الكلام يفقد معناه بسبب القهر أو الإهانة، كتعبير نفسى عن الرفض بالمعنى الإيجابى، ولكنه كذلك قد يكون أقرب إلى الانتحار المعنوى، لذا نجد أن كثيرا من العلاجات النفسية، ليست سوى محاولات لكسر حاجز الصمت، وفتح مجال للتعبير والكلام.فى عالمنا المعاصر تزيد الضوضاء ويزيد دفق الكلام وخاصة مع سيل الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعى، ولكن هذا لا يعنى غياب الصمت بمعناه المباشر أى السكوت أوعدم النطق بكلمات مسموعة. إن ملايين البشر يقضون معظم وقتهم فى مواجهة شاشات لا تتطلب الكثير من الكلام المنطوق بل التعبير المرئى والمكتوب. الضوضاء لم تعد أصواتا تتعالى بقدر ماهى صور وكلمات تتوالى كرسائل قصيرة وتعليقات وصور ورموز، أتصور أنه فى السابق كانت هناك فرصا أكبر للبشر لكى يختلوا بأنفسهم ويصمتوا، أما فى زمن المحمول والعالم الافتراضى أصبحت الخلوة مخترقة، مهما كانت سلطتنا، فلم يعد فى مقدورنا إسكات الآخرين، بل ربما لم تعد لدينا القدرة على إسكات أنفسنا، وهكذا لم يعد الصمت التقليدى سبيلنا إلى السكينة، فالأمر بات يتطلب ما هو أكثر، أى الانسحاب وإغلاق نوافذ إلكترونية باتت نوعا من الإدمان.