وظلّ الاسم ثابتـًا حتى الاحتلال الإنجليزى فكان (مملكة مصر) وأحيانــًا (مصر والسودان) وهكذا لم يجرؤ عتاة الغزاة بما فيهم العرب على تغيير اسمها بينما فعلها عبدالناصر فصارتْ الحروف الثلاثة الشهيرة (ج. ع. م) ولما جاء السادات أجرى تغييرًا لم يمح آثار الجريمة فأمستْ (ج. م . ع) وكان الهدف منذ كارثة يوليو1952 محو (القومية المصرية) لصالح قومية أجنبية ، وهو ما اعترف به ضابط المخابرات المصرى فتحى الديب (المولع بالعروبة) فكتب ((ثورة مصر أعلنتْ عن هويتها العربية فى أوائل عام 53)) (عبدالناصر وتحرير المشرق العربى- مركز دراسات الأهرام- عام 2000ص12) ونصّ دستور56على أنّ مصر((جزء من الأمة العربية)) إلى أنْ جاء فبراير58 فكان التاريخ الرسمى لشطب اسم مصر، لمجرد تنفيذ خطة عبثية يائسة بائسة (الوحدة المصرية/ السورية) رغم سلطوية القرار، ورغم البعد الجغرافى (لماذا لم تكن هذه الخطوة مع السودان؟) ولم يكتف عبدالناصر بشطب اسم مصر، إنما تحوّلتْ إلى مجرد (إقليم جنوبى) وسوريا (إقليم شمالى)
لم يكن فبراير58 بداية الجريمة. بدأتْ المؤامرة على هويتنا القومية بعد أقل من عام من سيطرة الضباط على الحكم . ففى يوم 6يوليو53 تم بث إذاعى جديد باسم (صوت العرب)والسؤال الذى طرحته فى كتابى (العسكر فى جبة الشيوخ) الصادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان سنة2003وتجاهلته الثقافة السائدة هو : لماذا صوت العرب فى مصر وليس فى الجزيرة العربية؟ وتبدو أهمية السؤال عندما نعلم أنّ المخابرات الأمريكية هى صاحبة إنشاء (صوت العرب) فى مصر. وأنّ الخبراء الأمريكان المُتخصصين فى الدعاية هم الذين ساعدوا فى إنشائها وتزويدها بكل الأجهزة اللازمة لتشغيلها واختيار اسمها (حبال من رمال- تأليف ويلبر كرين إيفلاند) ومع ملاحظة أنّ المؤلف مستشار سابق لدى المخابرات الأمريكية. وذكر
ويرى العقل الحر ضرورة ربط ما سبق (محطة صوت العرب وشطب اسم مصر) بخطب عبدالناصر الذى وقف أمام الشعب السورى فى ساحة الجلاء أمام قصر الضيافة فى دمشق يوم 9 مارس58 ليقول ((كنا نشعر بكم فى هذه المنطقة من العالم وقد عزلونا عنكم وأرادوا أنْ يُقيموا فى مصر بلدًا يتنكر لعروبته وينتمى إلى الفرعونية)) ثم جدل عداءه للقومية المصرية فى ضفيرة واحده مع لغته الدينية فختم كلامه قائلا ((ومهما حاول أعوان الاستعمار أنْ يُفرّقوا ويُقيموا الحدود فلن يستطيعوا مطلقــًا أنْ يقضوا على ما أقامه الله)) ثم أصرّ على عدائه للقومية المصرية والزعم بأنّ الاستعمار(الخبيث) وراء الدعوة للفرعونية فقال فى خطاب 22/7/59((واستطعنا أنْ نرى أنّ الدعوة الفرعونية التى حاول الاستعمارأنْ يبثها بيننا ضمن الدعوات الأخرى التى حاول أنْ يبثها بين الأمة المصرية (لاحظ يا قارئى التناقض فى كلامه والصياغة الركيكة) إنما هى محاولة زائفة ، يُحاول الاستعماربها أنْ يُقسّم الأمة العربية ليقضى عليها جزءًا جزءًا ويقضى على العرب والقومية العربية ليحل محلها قوميات أخرى)) (مجلد خطب عبدالناصر- القسم الثانى- طبعة مصلحة الاستعلامات- ص 55، 468)
فإذا كان الاستعمار- فى رأى عبدالناصر- حاول القضاء على القومية العربية ، فلماذا ألحّتْ بريطانيا على إنشاء جامعة الدول العربية ؟ لدرجة مساعدة عزيز المصرى بمبلغ ألفىْ جنيه مع التعهد له بأنّ بريطانيا سوف ((تساعد الحركة القومية العربية)) وأنْ ((يظل على اتصال بمكتب القاهرة للمخابرات الأمريكية وبالمعتمد البريطانى)) (برقية وردتْ من وزيرالخارجية البريطانى إلى المعتمد البريطانى فى مصر) نشرها هيكل (الصحابى الأول لنبى العروبه عبدالناصر) فى كتابه (الاتصالات السرية بين العرب وإسرائيل) ؟ ولماذا كان الصراع بين بريطانيا وفرنسا حول من منهما تكون له الريادة والمبادءة فى إنشاء جامعة الدول العربية ؟ وهو الصراع الذى ذكر تفاصيله د. عبدالرحمن البيضانى نائب رئيس الجمهورية ورئيس وزراء اليمن الأسبق (أهرام 9/8/2003) ثم كان النصر لبريطانيا فكتب المؤرخ عبدالرحمن الرافعى أنّ ((إنشاء جامعة الدول العربية كان بإيعاز من بريطانيا)) (مصر بين ثورة19وثورة52 مركز النيل للإعلام- مطابع الشروق- عام77ص 53)
العقل الحر- وحده- هو القادرعلى طرح السؤال المسكوت عنه : هل مصر عربية بالاستناد إلى علوم المصريات واللغويات والأنثربولوجيا ؟ فى العلميْن الأخيريْن حقيقة بديهية وهى أنه لا يوجد تشابه وتماثل تام بين شعب وشعب سواء فى بنيته اللغوية أو فى أنساق قيمه. فالشعب السعودى يختلف عن الشعب اللبنانى والشعب العراقى يختلف عن الشعب المغربى وهكذا. ولأنّ أحمد أمين كان يحترم لغة العلم كتب ((العرب أزالوا استقلال فارس . وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربًا)) (ضحى الإسلام- ج1 ص76) وأكثر من ذلك كتب ((إنّ الأمم تختلف فى ميزاتها اختلافــًا كالذى بين أفرادها. فهى تختلف فى عاداتها وتجاربها وفى منهج تفكيرها ودرجة عقليتها ومقدار ثقافتها وحدة عواطفها أو هدوئها)) (ص22) أما المقريزى فكتب ((اعلم أنّ العرب الذين شهدوا فتح مصر قد أبادهم الدهر وجهلتْ أحوال أكثر أعقابهم . وقد بقيتْ من العرب بقايا بأرض مصر، فمن بقى؟)) (البيان والاعراب عما بأرض مصر من الأعراب- ص 18) وكان تعقيب د. عبدالله خورشيد البرى على كلام المقريزى ((وهذه العبارة من ذلك المؤرخ الكبير صحيحة إلى حد كبير)) (القبائل العربية فى مصر- دار الكاتب العربى – عام 67- ص 57) ولأنّ المصرى مؤمن بالتعددية ونبذ الأحادية وبالتالى لم يعرف التعصب العرقى ، لذلك لم يجد غضاضة فى أنْ يُزوّج ابته لأى إنسان عربى ، بينما العرب يفعلون العكس فيُقبلون على الزواج من المصريات ولكن يرفضون أنْ يتزوّج المصرى من أى إنسانة عربية. ولم يكتفوا بذلك وإنما صاغوا تعصبهم العرقى فى مثل شهير فقالوا ((يأكلها – أى ابنته- التمساح ولا يأخذها الفلاح)) (المصدرالسابق- ص49) والفلاح هنا إشارة إلى المصرى الذى اعتمد على العمل الزراعى . ووصل التعصب العنصرى عند الخليفة (المسلم) معاوية بن أبى سفيان لدرجة أنْ يقول ((أهل مصر ثلاثة أصناف : فثلث ناس وثلث يُشبه الناس وثلث لا ناس. أما الثلث الذين هم الناس فالعرب. والثلث الذين يشبهون الناس فالموالى . والثلث الذين لا ناس المسالمة يعنى القبط)) (المقريزى المواعظ والاعتبار- دار صادر- بيروت- ج1-ص 50)
وإلى العروبيين من المصريين المؤمنين بخرافة أننا نحن المصريين عرب أسوق إليهم ما حدث عندما أراد أهل قرية مصرية (أهل الحرس) الهروب من دفع الجزية ومساواتهم بالعرب ، فكتبوا لأنفسهم نسبًا يعود إلى (حوتك) إحدى القبائل العربية. فثارتْ عنصرية العرب ورفضوا أنْ ينتسب غير العرب للعرب. ذهب المصريون (السُذج) والذين لم يُقاوموا الاحتلال العربى إلى القاضى العمرى ليثبتْ لهم نسبًا عربيًا. وأتوا ببعض عرب الحوف الشرقى ليشهدوا لهم بنسبتهم إلى بنى (حوتكة) من (قضاعة) فقبل القاضى شهادة عرب الشام (بعد أنْ قبض الرشوة) وسجّل لهم نسبًا بذلك ، فثار العرب وتولى شعراؤهم الهجوم على القاضى فقال الشاعر يحيى الخولانى ((ومن أعجب الأشياء أنّ عصابة/ من القبط فينا أصبحوا قد تعربوا/ وقالوا أبونا حوتك ، وأبوهم/ من القبط علج حبله يتذبذب)) (د. محمد حسين كامل- أدب مصر الإسلامية- دار الفكر العربى – 25) أما الشاعر(المعلى بن المعلى الطائى) فكتب شعرًا وجّهه إلى القاضى فقال :
تقضى نهارك بالهــــــــوى وتبيتُ بين مغنياتــــــــك
فاشرب على صرف الزمان بما ارتشيتَ من الحواتك
إنْ كنتَ قد ألحقتـــــــــــــهم عربًا فزوجهم بناتـــــــك
(المصدر د. إبراهيم جمعه فى كتابه (القومية المصرية الإسلامية) نقلا عن كتاب (عروبة مصر) للشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى – دار الآداب – بيروت –
أعلم أننى أنحت الصخر بأظافرى ، وأنّ أغلب أعضاء لجنة الدستور مؤمنون بالعروبة ، وبالتالى فلن يتأثروا بأى كتابة مهما بلغتْ دقتها وموضوعيتها ، وغالبًا لن يجد الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى من يُصوتْ معه على أنْ تكون كلمة (مصر) كافية بذاتها وبالتالى إلغاء أى صفة (عروبية) تلحق باسم مصر. أعلم ذلك رغم حماسته وإيمانه بمصر، بعد المراجعات الشجاعة التى انتقد فيها تفكيره (العروبى) السابق ، فعل ذلك فى سلسلة مقالات فى الأهرام منذ عدة سنوات . ولذلك عندما تحدّثتُ معه تليفونيًا (بحكم أنه عضو لجنة الخمسين) عن اسم مصر، وافقنى تمامًا على كل ما طلبته منه. ووعد بإثارة الموضوع مع أعضاء اللجنة. وإذا كنتُ أنحتْ بأظافرى ، فالأمل فى أمثال الشاعر حجازى وفى أبناء (الجالية المصرية فى مصر) لعلّ الأظافر عندما (تتجمّع) فربما يأتى جيل (ولو بعد عشرات السنين) ليمحوا آثار جريمة شطب اسم مصر.