كان الرب يسوع يمشي عند بحر الجليل أبصر أخوين سمعان الذي يقال له بطرس، وأندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر ” فإنَّهُما كانا صَيّادَينِ. فقالَ لهُما:”هَلُمَّ ورائي فأجعَلُكُما صَيّادَيِ الناسِ”. فللوقتِ ترَكا الشِّباكَ وتبِعاهُ. ثُمَّ اجتازَ مِنْ هناكَ فرأَى أخَوَينِ آخَرَينِ: يعقوبَ بنَ زَبدي ويوحَنا أخاهُ، في السَّفينَةِ مع زَبدي أبيهِما يُصلِحانِ شِباكَهُما، فدَعاهُما. فللوقتِ ترَكا السَّفينَةَ وأباهُما وتبِعاهُ”(مت4: 18- 22).
أولاً: ليكن الرب هو النموذج الذي نقتدي به في خدمتنا
عندما دعا الرب يسوع التلاميذ الأولين قال لهم :”هَلُمَّ ورائي”(مت4: 19)…ياه يا لها من دعوة جميلة … في يقيني أنالرب يسوع قصد من هذا النداء الأمور الآتية:
أ. يحب المسير وراء السيد، ونتخذ منه النموذج والمثال والقدوة في خدمتنا، ذاك الذي جاء لا ليُخدَمَ بل ليَخدِمَ، وليَبذِلَ نَفسَهُ فِديَةً عن كثيرينَ”(مت20: 28). “تارِكًا لنا مِثالاً لكَيْ نتَّبِع خُطواتِهِ… لذلككما سلكَ ذاكَ نسلك نحن أيضاً”(1بط2: 21مع 1يو2: 6).
ب. لنسير من ورائه وهو أمامنا لكي يرشدنا ويهدينا الطريقَ التينسلُكُها”(مز32: 8) فهو الطريق والحق والحياة. وعندما نكون في المسيح، سنكون على الطريق الصحيح نحو خدمة متميزة ومثمرة ومؤثرة.
ج. لنسير خلفه ويكون هو أمامنا ليكون هو هدف الحياة الذي نكرس له كل شيء فهو رب الحياة، وسند الحياة فيجب أن يكون هدف الحياة.
د. ليكن هو أمامنا ونحن نسير من ورائه ليكون هو حصناً وترساً وأماناً لنا، نحتمي به من سهام الشرير الملتهبة وتحديات الخدمة، ومخاطر الحياة، ومخاوف الزمن.
ثانياً: الله قادر أن يستخدم أي إنسان مهما كانت وزناته قليلة
الجدير بالملاحظة في دعوة التلاميذ الأولين أنهم لم يكونوا من أصحاب الألقاب أو الشهادات العلمية، لم يكونوا علماء أو فلاسفة، أو من القادة والكتاب والأدباء والمفكرين والمثقفين، ولم يكونوا من أثرياء المجتمع الذين يستغلون سلطة وسطوة المال في فرض نفوذهم وآرائهم، ولم يكونوا من القيادات العسكريةالذين تتلألأ على أكتافهم أو صدورهم الرتب والنياشين.
لكن بالعكس فلقد كان التلاميذ الأربعة من الصيادين الفقراءالبسطاء الذين تفوح من ثيابهم رائحة السمك، ولكنهم كانوا نواة أعظم مجموعة أوكل لهم السيد مسئولية الرسالة، ولعل الرب أراد أن يعلمنا أن لا نستصغر مواهبنا ووزناتنا، وأنه يستطيع أن يستخدم أي إنسان مهما كانت مواهبه بسيطة، كيف لا؟! ألم يسطر الرسول بولس قائلاً: “فانظُروا دَعوَتَكُمْ أيُّها الإخوَةُ، أنْ ليس كثيرونَ حُكَماءَ حَسَبَ الجَسَدِ، ليس كثيرونَ أقوياءَ، ليس كثيرونَ شُرَفاءَ، بل اختارَ اللهُ جُهّالَ العالَمِ ليُخزيَ الحُكَماءَ. واختارَ اللهُ ضُعَفاءَ العالَمِ ليُخزيَ الأقوياءَ. واختارَ اللهُ أدنياءَ العالَمِ والمُزدَرَى وغَيرَ المَوْجودِ ليُبطِلَ المَوْجودَ”(1كو1: 26- 28).
عندما وجه الرب الدعوة لموسى ليقود الشعب ويخلصهم من يد فرعون، كان رد موسى على الرب “مَنْ أنا حتَّى أذهَبَ إلَى فِرعَوْنَ”(خر3: 11). فلقد كان يشعر بعدم قدرته للقيام بالمهمة، وربما كان هذا يعود إلى أنه كان ثقيل الفم واللسان، لكن الرب قال له:”مَنْ صَنَعَ للإنسانِ فمًا؟ أو مَنْ يَصنَعُ أخرَسَ أو أصَمَّ أو بَصيرًا أو أعمَى؟ أما هو أنا الرَّبُّ؟ فالآنَ اذهَبْ وأنا أكونُ مع فمِكَ وأُعَلِّمُكَ ما تتكلَّمُ بهِ”(خر4: 11، 12).
وعندما دعا الرب إرميا، كانت إجابته:”آهِ، يا سيِّدُ الرَّبُّ، إنِّي لا أعرِفُ أنْ أتكلَّمَ لأنِّي ولَدٌ”(إر1: 6). لكن الرب شجعه وقال له:”لا تقُلْ إنِّي ولَدٌ، لأنَّكَ إلَى كُلِّ مَنْ أُرسِلُكَ إليهِ تذهَبُ وتتكلَّمُ بكُلِّ ما آمُرُكَ بهِ. لا تخَفْ مِنْ وُجوهِهِمْ، لأنِّي أنا معكَ لأُنقِذَكَ، يقولُ الرَّبُّ”.(إر1: 7، 8)، واستطاع أن يقف في وجه الطغاة والظالمين ويعلن صوت النبوة بكل قوة ووضوح.
وهل ننسى يوشيا، وقد تولى المملكة وهو في الثامنة من عمره، وقاد أكبر وأعظم ثورة إصلاح وتصحيح في حياة شعب الله في القديم وهو أقل من العشرين (2أخ34).
+ لهذا فلا عجب أن نرى الرسول بولس يوصي تيموثاوس قائلاً:”لا يَستَهِنْ أحَدٌ بحَداثَتِكَ، بل كُنْ قُدوَةً للمؤمِنينَ: في الكلامِ، في التَّصَرُّفِ، في المَحَبَّةِ، في الرّوحِ، في الإيمانِ، في الطَّهارَةِ”(1تي4: 12).
نعم! عندما يضع الإنسان قدراته بين يدى الله عندئذ يمكنه أن يصنع الكثير.
ألم يصنع الله معجزة بدهنة الزيت التي كانت للأرملة التي من نساء بني الأنبياء والتي جاءت إلى اليشع تشكو من ديونها وأعوازها فسددت دينها وغطت احتياجاتها (2مل4).
ألم يبارك الله في كف الدقيق والزيت القليل الذي صنعت منهأرملة صرفة صيدا أولاً كعكة لإيليا، فكان وعد الرب بأن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص (1مل17: 16)؟!.
ومَنْ ينسى الفتاة الصغيرة المسبية التي كانت سبباً في شفاءنعمان السرياني من برصه (2مل5: 3).
كيف لا؟! ألم يحدث عندما وضعوا بين يدي الرب يسوع الخمس خبزات والسمكتين، فلما أمسك بهم أشبع الآلاف وفاض؟!.
وماذا كانت تمتلك طابيثا (غزاله) التي كانت بركة كبيرة للأرامل والأيتام، لم يكن رأس مالها أكثر من ” إبرة” مع قلب خادم محب.
عندما تتطلع إلى الاثنى عشر الذين اختارهم الرب يسوعنتسائل مَنْ هو بطرس أو أندراوس ومَنْ يعقوب، أو يوحنا أو غيرهم؟! ما هي القدرات التي كانوا يتمتعون بها؟!، وما هيالسمات التي تميزهم؟! قال أحدهم: لو كنت مكان المسيح لما اخترت هؤلاء، ولكن الرب يسوع كان ينظر نظرة عميقة لهم …نظرة إلى القدرات الكامنة فيهم.
فالفكر المسيحي يعلمنا أن داخل كل إنسان قدرات هائلة غير محدودة، فلقد قال المسيح لتلاميذه “ها ملكوتُ اللهِ داخِلكُمْ”(لو17: 21).
ويقول الرسول بولس”روحُ اللهِ يَسكُنُ فيكُم؟” (1كو3: 16). ولذلكيمكن للمؤمن الحقيقي أن يهتف قائلاً: ” ليَقُلِ الضَّعيفُ: “بَطَلٌ أنا!”(يؤ4: 10).
ليس المهم كم تملك من الوزنات، لكن الأهم هو هل تستثمر الوزنة التي أعطاك إياها الله أم لا؟!.
ثالثاً: الله يستخدم مَنْ لديهم الاستعداد للإجتهادوالصبر والمثابرة
لقد جاء المسيح إلى أربعة كانوا يبذلون جهداً شاقاً مضنياًفي عملهم فبطرس وأندراوس كانا يلقيان الشبكة في البحر، وكان يعقوب ويوحنا يصلحان شباكهما، كان لديهم روحالاستعداد للكفاح والعطاء والتضحية دون كلل أو ملل … كانت لديهم الصفات التي هي نواة لكل بطولة في الأرض.
نعم! إن المتأمل في حياة كل تلميذ من التلاميذ الذين دعاهم السيد لخدمته يجد أن حياته سلسلة متصلة من الكفاح والعطاء،فلا يمكن لشخص أن يتبع السيد دون أن يشاركه كأسه، ويحمل صليبه، ويصطبغ بصبغته.
وتاريخ الكنيسة يحكي لنا كيف أن تلاميذ المسيح اتسموا بالشجاعة والإقدام لا يخيفهم سجن أو اضطهاد أو تعذيب ولايغريهم أو يشدهم أي مال، أو جاه، أو سلطة، فالإنسان الذي اختبر الحياة مع المسيح يسترخص كل شيء حتى الحياة نفسها من أجل فضل معرفة المسيح، والوجود فيه، ولسان حاله يقول: “يَنبَغي أنْ يُطاعَ اللهُ أكثَرَ مِنَ الناسِ”(أع5: 29). دون أن يضعوا في حسابهم أي ترغيب أو ترهيب.
رابعاً: ما أجمل أن نقبل دعوة الله لنا دون تردد
عندما دعا الرب يسوع أندراوس وبطرس مكتوب ” للوقت … تبعاه” ونفس الشيء حدث أيضاً عند دعوة يعقوب ويوحنا إذ مكتوب “للوقت … تبعاه” والتعبير “للوقت” الذي تكرر مرتين يعني القبول السريع لدعوة السيد دون تباطؤ، والطاعة الفورية لندائه دون تردد، وإنما على الفور قاموا بتلبية الدعوة المقدمة لهم.
لعل هذا يذكرنا بإبراهيم الذي شهد له الوحي المقدس أنه “لَمّا دُعيَ أطاعَ” (عب11: 8).
ويذكرنا أيضاً بإشعياء الذي عندما سمع صوت السيديقول”مَنْ أُرسِلُ؟ ومَنْ يَذهَبُ مِنْ أجلِنا؟”. أجاب على الفور:”هأنذا أرسِلني”(اش6: 9).
على العكس من يونان الذي عندما دعاه الله ليكون مرسلاً إلى نينوى لم ينفذ الدعوة وأخذ الاتجاه العكسي وبدلاً من أن يتجه إلى نينوى شرقاً إتجه إلى ترشيش غرباً (يون3).
إن دعوة الله لكل مؤمن أن يكون شاهداً عن محبة الله وخلاص الرب، كُلُّ واحِدٍ بحَسَبِ ما أخَذَ مَوْهِبَةً، يَخدِمُ بها”(1بط4: 10).
إن الرب ينادي كل واحد من أولاده قائلاً: “ياابني، اذهَبِ اليومَ اعمَلْ في كرمي”(مت21: 28). وشوق قلب الله أن يكون شعار كل إنسان اختبر الحياة الجديدة في المسيح هو “آمَنتُ لذلكَ تكلَّمتُ”(مز116: 10).
دون تخاذل أو تكاسل.
ياه! كم من مكدوني يستغيث ويستنجد صارخاً ” أعبر إلينا وأعنا”، وكم من فيلبي يتساءل في حيرة قائلاً: ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟ وكم شباب ضائع وتائه دمره الشر وفتكت به الخطية يتساءل في لوعة وأسى قائلاً:” ماذا أعمَلُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّةَ؟”. وصوت الرب من أجلهم ينادي قائلاً: “اذهَبوا إلَى العالَمِ أجمَعَ واكرِزوا بالإنجيلِ للخَليقَةِ كُلِّها… الحَصادُ كثيرٌ ولكن الفَعَلَةَ قَليلونَ… وتكونونَ لي شُهودًا في أورُشَليمَ وفي كُلِّ اليَهوديَّةِ والسّامِرَةِ وإلَى أقصَى الأرضِ”(أع1: 8).
فهل نلبي الدعوة ونحيا في طاعة الله، ونكون بحق رسالة المسيح المعروفة والمقروءة من جميع الناس؟.
خامساً: الله يستخدم كل واحد بأسلوب متميز عن الآخر
مثلما ميز الله كل إنسان بسمات شخصية متفردة، وإمكانياتخاصة جداً، هكذا فلكل منا رسالة مختلفة عن الآخر، وهذا ما نراه بوضوح وجلاء في دعوة التلاميذ الأربعة الأوائل.
كان أندراوس هو أول تلميذ عرفناه من تلاميذ المسيح، وأول مَنْ علمنا أن التلمذة المسيحية تعني أن نجد المسيح ونقدمه للآخرين من القريبين والبعيدين.
كان أندراوس أشبه بالصياد الذي يصطاد بالشص (السناره)فلقد كان في غاية المهارة في العمل الفردي فهو الذي قدم الدعوة لبطرس، وقاده إلى معرفة المسيح، وهذا واضح مما جاء في (يو1: 41)”هذا وجَدَ أوَّلاً أخاهُ سِمعانَ، فقالَ لهُ:”قد وجَدنا مَسيّا” الذي تفسيرُهُ:المَسيحُ”.
كان أندراوس يتسم بالوداعة والتواضع، يعمل في صمت وهدوء وفي الخفاء، لا يهمه أن يعرف الناس دوره، ولا يغريه أن تتسلطعليه الأضواء بقدر ما يهمه توصيل الرسالة … في الوجه المقابل نرى بطرس شخصية جماهيرية يشبه الصياد بالشبكة، ففي يوم الخمسين عندما قدم عظته الشهيرة، وطرح شبكته خرجت محملة بثلاثة آلاف نفس .
أما يعقوب بن زبدي فلقد كانت خدمته هي أقصر خدمة بين تلاميذ المسيح فمن اليوم الذي فيه ألتقى بالرب يسوع على بحر الجليل إلى يوم استشهاده على يد هيرودس كانت المدة سبعة عشر سنة، قضى منها ثلاث سنوات في صحبة ورفقة السيد يتدرب على الخدمة، ومن الواضح أنه كان واحداً من المجموعة الأقرب لقد أطلق عليه المسيح وعلى أخيه” ابن الرعد” للطبيعة الثورية النارية التي تبدو بوضوح كسمات شخصية فيهما، ومن المعتقد أن المسيح لم يبدل طباع الأخوين، لكنه حولها في إتجاه الخير فكما يقال النار التي تحرق هي بعينها التي يمكن أن تحرك الآلات والمصانع، وقد تدرب يعقوب على تحويل طاقته الكامنة، وحرارته الملتهبة لخدمة المسيح ومجد الله في الأرض. فكان يعقوب نموذجاً مشرفاً للجرأة والشجاعة التي أذهلت وأبهرت الجميع فكانت شهادته مثمرة ومؤثرة.
أما يوحنا فهو التلميذ الذي يُطلق عليه التلميذ الذي كان يسوع يحبه.
نعم! لقد اختار الرب يسوع تلاميذه وجعلهم دوائر متعددة فهناك السبعون تلميذاً، وهناك الإثنى عشر، وهناك من الإثنى عشر دائرة أضيق، دائرة الثلاثة (بطرس ويعقوب ويوحنا) وهناك من بين الثلاثة هذا الواحد الذي قيل عنه وحده من بين التلاميذ الذي أخذ المكان المفضل إذ كان يتكئ في حضن المسيح.
وإذا كان الرب قد أطلق عليه مع يعقوب (أبنى الرعد) إلا أن الرب أمسك به وأدار إتجاه عاطفته وحول نارها إلى نور، ووجه طبيعتهالملتهبة إلى غيرة مقدسة، وطاقة جبارة، وحياة متقدة متفانية في عمل الرب واستثمر محبته الدافقة الدافئة في أنه أوصاه برعاية أمه العذراء مريم وفي كتابة رسائله النابضة بالمحبة، وسفر الرؤيا الإعلان العظيم من الله للكنيسة المتألمة المجاهدة.
سادساً: الله يدعو مَنْ لديه الاستعداد لدفع ضريبة الخدمة
جاء في معرض الحديث عن دعوة أندراوس وبطرس أنهما ” تركا كل شيء”، وعندما دعا الرب يعقوب ويوحنا مكتوب ” تركا السفينة وأباهما وتبعاه” والكلمة “تركا” تعني أنهم دفعوا ثمن تبعية الرب، وضريبة الرسالة والخدمة.
لقد تركوا عملهم حرفة صيد السمك، وودعوا البيت حيث الدفء الأسرى والإستقرار العائلي، وانطلقوا نحو المجهول في الخدمة العظيمة.
وهكذا كل مَنْ يقبل دعوة الله لخدمته لابد أن يضع في اعتباره أن يتمم ما قاله السيد ” “إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي، فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يومٍ، ويتبَعني” (لو9: 23).
في (مرقس10: 15- 22) التقطت عدسة الوحي المقدس صورة لأحدهم وقد جاء إلى الرب يسوع وسأله ” ماذا أعمَلُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّةَ؟” فقال له الرب:” اِذهَبْ بِعْ كُلَّ ما لكَ وأعطِ الفُقَراءَ، وتعالَ اتبَعني حامِلاً الصَّليبَ”. لكن من أسف يسجل الوحي عنه ” أنهاغتَمَّ علَى الفور ومَضَى حَزينًا، لأنَّهُ كانَ ذا أموالٍ كثيرَةٍ”. وفي إنجيل (لو9: 57- 62) ترسم ريشة الوحي المقدس ثلاث صور لثلاثة أشخاص كانت أمامهم فرصة ذهبية للمسير مع الرب.
الصورة الأولى لشخص جاء للرب يسوع وقال له: “أتبَعُكَ أينَما تمضي” ويبدو أنه أبدي هذا الاستعداد بإنفعال وإندفاع عاطفي دون أن يعمل حساب النفقة “فقالَ لهُ يَسوعُ:”للثَّعالِبِ أوجِرَةٌ، ولطُيورِ السماءِ أوكارٌ، وأمّا ابنُ الإنسانِ فليس لهُ أين يُسنِدُ رأسَهُ”(لو9: 58). ومن أسف لم يذكر الكتاب أنه قبل التحدي وتبع السيد.
والصورة الثانية لشخص طلب منه الرب أن يتبعه إلا أنه قدم عذراً واهياً لعدم استجابته للدعوة.
والصورة الثالثة لشخص دعاه الرب لإتباعه لكنه تردد في قبول الدعوة إذ أن لديه أولويات أهم من تبعيته السيد “فقالَ لهُ يَسوعُ:”ليس أحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ علَى المِحراثِ ويَنظُرُ إلَى الوَراءِ يَصلُحُ لملكوتِ اللهِ”(لو9: 62).
إن الرب عندما يدعونا للمسير معه علينا أن يكون لدينا الاستعداد أن ندفع الثمن والضريبة.
يسطر تاريخ الكنيسة أن خدمات أندراوس كانت على الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود، وامتدات إلى بيزنطيه وروسيا ووصلت إلى اليونان حيث مات هناك مصلوباً عام 60م في بتراس على يد أجتياس الحاكم، الذي استبد به الغضب، لأن زوجته جاءت إلى الإيمان المسيحي من خلال وعظ وتبشير أندراوس، وإذ حاول بكل الطرق أن يثنيها عن إيمانها المسيحي ولم يستطع، أمسك بأندراوس وحكم عليه بالموت صلباً على صليب على شكل المقص المفتوح والمثبت من طرفيه في الأرض، وقد تركه معلقاً لمدة يومين، وعندما رأت الجماهير هالها المشهد وسمعته وهو يحذرهم من المسير وراء العالم ويشجعهم على الالتصاق بالرب وقد قيل أن مشاعر حب الجماهير أثرت في الحاكم حتى فكر أن ينزله على الصليب ولكن أندراوس رفض مفضلاً ومرحباً بأن يدفع ضريبة إتباع المسيح عن أي اختيار آخر.
ويسجل تاريخ الكنيسة أن بطرس صُلب في روما بعد أن زارها لمدة شهور لتفقد المسيحيين هناك، وقيل أن زوجة بطرس استشهدت قبله وإنه شجعها على الموت من أجل المسيح، كما قيل أيضاً إن المسيحيين شجعوه على الابتعاد عن روما خوفاً على حياته، وبالفعل ذات مساء أخذ طريقه للخروج من روما، وعند شروق الشمس أبصر شخصاً مهيباً أمام عينيه، وإذ عرف أنه المسيح صاح إلى أين يا سيد، وجاءه الجواب ” إن لي تلميذاً كان هناك في روما ثم هرب، وأنا ذاهب لآخذ مكانه، وأصُلب مرة ثانية نيابة عنه، وصرخ بطرس من أعماقه: لا يا سيد أنا راجع … أنا راجع … وعاد ليموت مصلوباً، وعندما أرادوا أن يصلبوه قال: إنه شرف لا أستحقه أن أموت مصلوباً مثل سيدي ولكني أرجو أن أصلب وقدماي إلى أعلى ورأسي إلى أسفل لأني أقل من أن أكون كسيدي.
أما يعقوب فمكتوب في (أع12: 1- 3) ” وفي ذلكَ الوقتِ مَدَّ هيرودُسُ المَلِكُ يَدَيهِ ليُسيئَ إلَى أُناسٍ مِنَ الكَنيسَةِ، فقَتَلَ يعقوبَ أخا يوحَنا بالسَّيفِ. وإذ رأَى أنَّ ذلكَ يُرضي اليَهودَ، عادَ فقَبَضَ علَى بُطرُسَ أيضًا. وكانَتْ أيّامُ الفَطيرِ”.
لقد ظن الأعداء أن الإضطهاد سوف يحطم الكنيسة ويدمر خدمتها، ولكن حكمة الله أظهرت العكس، إذ أن دم الشهداء كان بمثابة بذار الكنيسة وهو الذي رسخ أساساتها، ووسع دائرتها ونماها وجعلها أكثر ثمراً وأكبر تأثيراً.
أما يوحنا الحبيب فلقد حولته المحبة من السعي وراء المقعد الأول إلى السعي إلى المقعد الأخير، وكم كانت مأساته ومعاناته وهو في منفاه في جزيرة بطمس حتى أنه يسطر قائلاً: “أنا يوحَنا أخاكم وشَريكُكُمْ في الضِّيقَةِ وفي ملكوتِ يَسوعَ المَسيحِ وصَبرِهِ”(رؤ1: 9).
سابعاً: مكافأة السيد لمَنْ يخدمونه أكثر من الخيال
قال بطرس في يوم من الأيام للرب يسوع “ها نَحنُ قد ترَكنا كُلَّ شَيءٍ وتبِعناكَ. فماذا يكونُ لنا؟”(مت19: 27).
وكان جواب السيد بأن: “كُلُّ مَنْ ترَكَ بُيوتًا أو إخوَةً أو أخَواتٍ أو أبًا أو أُمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حُقولاً مِنْ أجلِ اسمي، يأخُذُ مِئَةَ ضِعفٍ ويَرِثُ الحياةَ الأبديَّةَ”.
نعم! لقد أخذوا في الواقع آلاف الأضعاف في الحياة الحاضرةمن الإكرام وذيوع الشهرة والعظمة والمكانة المرموقة …أسماؤهم تتلألأ عبر التاريخ، ولو تأنى الرب يسوع في مجيئه ثانية إلى ألفين سنة أخرى لإزدادت أسماء تلاميذ المسيح بريقاً ولمعاناً.
وكل ما أخذوه من هذه العطايا لا يقارن بالحياة الأبدية الميراث الذي لا يفني ولا يتدنس ولا يضمحل.
حقاً! إن مكافأة السيد لمَنْ يخدمونه فوق حد التصور.
كيف لا؟! أليس وعد الرب “أُكرِمُ الذينَ يُكرِمونَني”(1صم2: 30). وهل ننسى الرب يسوع عندما قال: “وإنْ كانَ أحَدٌ يَخدِمُني يُكرِمُهُ الآبُ”(يو12: 26).
في الحقيقة إن الله لا يبات مديون لأحد، ومن المؤكد أن كأس ماء بارد باسمه لا يضيع أجره
الجزء الخامس
الجزء الرابع
الجزء الثالث
الجزء الثانى
الجزء الاول