هل من حق الإنسان فى هذا العالم المتشابك والمنفتح أن يقرر أن يُنسى (بضم الياء)؟ أى أن يقرر من يجب أن يراه ومن يسمع عنه ومن لا يجب؟ ومتى يتذكره الناس ومتى ينسونه؟ قرأت عن هذا الموضوع تحليلا شيقا فى جريدة إنترناشونال هيرالد تربيون فى عددها الصادر يوم 13 يونيو 2013، والذى ناقش سعى الاتحاد الأوربيى لإستصدار تشريعات تكفل الحق فى إزالة السجلات الرقمية Digital Records من الإنترنت، وهو موضوع يواجه اعتراضات شديدة من قبل الجماعات المعنية بحفظ السجلات الرقمية والمهتمين بالدراسات التاريخية.
إن التوتر بين الحق فى الخصوصية والحق فى تداول المعلومات لا يزال متواصلا حتى فى المجتمعات التى يجرى الاعتقاد بإنها قطعت شوطا كبيرا فيما يتعلق بإحترام الخصوصية، ولكن هذه المرة يدخل الجدل حول هذا الموضوع منطقة منعطفا جديدا، حيث أصبح الفضاء الالكترونى مخزنا هائلا للسجلات العامة والشخصية. وقد نتصور أننا نتحكم فى سجلاتنا الشخصية، بما نملكه من أرقام سرية واحتياطات أمان، وربما كذلك بما نعتقد أنه يوفر لنا القدرة على حجب أنفسنا أو إظهارها مثل القواعد التى يوفرها الفيسبوك. لكن فى الحقيقية، وعلى ما يبدو، أن الحال ليس كذلك. فكثير مما نكتبه أو يُتكب عنا، وكثير مما يجرى تداوله بإرادتنا أو بغير إرادتنا فى أقات وسياقات محدده، ليس مصيره العدم، ولكنه يظل محفوظا فى المخزن الإلكترونى الهائل، وقد لا يكون فى صالحنا استدعاؤه من قبل آخرين فى أوقات وسياقات أخرى.
وهنا يجرى الحديث عن علاقة الشخص بما يُكتب أو يُقال عنه أو عنها، فقد يتضرر الشخص بصورة مباشرة وفى إطار علاقته/ا الشخصية أو المهنية. ولكن ثمة بعد آخر جماعى، ويتمثل فى قدرة الكيانات الكبرى السياسية والاقتصادية على استغلال هذه المعلومات وتوظيفها لأغراض تحقق مصالح هذه الكيانات سواء فى السيطرة أو الربح. فثمة شخصنة ولا شخصنة فى التعامل مع المعلومات. وبهذا المعنى فحتى المحترفين من مستخدمى الفضاء الإلكترونى قد يعرفون من لا يراهم، ولكنهم لا يعرفون من يراهم أو يتعقبهم سواء بشكل شخصى أو جماعى. فكيف الحال إذا بالنسبة للمستخدم العادى والذى تظل سجلاته/ا الشخصية محفوظة ومنفصلة ومرئية من قبل من يعرفهم ومن لا يعرفهم. ويمكن فى هذا الصدد سرد العديد من الوقائع التى تعود بالضرر على الأشخاص بسبب أن سجلاتهم الشخصية باتت خارجهم، مع انعدام تام للقدرة على السيطرة عليها، وبالتالى العجز التام للشخص أن يكون منسيا إن أراد.
لاشك أن هناك جانب موضوعى فى التوتر بين الحق فى الخصوصية والحق فى تداول المعلومات، فمن المنظور الشخصى يظل للحق فى الخصوصية الأولوية، أما من المنظور العام فقد لا يكون الأمر كذلك وخاصة إذا كان الإعمال الكامل للحق فى الخصوصية عائقا أما مصالح سياسية أو اقتصادية أو حتى علمية. وأعتقد أن هذا النوع من الجدل سيأخذ أبعادا مختلفة فى مجتمعاتنا التى، فى واقع الأمر، لا تحترم الحقين، لا الحق فى الخصوصية لا الحق فى تداول المعلومات. والمشكلة فى فى مجتمعاتنا كذلك، بطبيعتها الأبوية، أنها تسئ استخدام أية سجلات شخصية ليس فقط لأسباب سياسية أو اقتصادية ولكن لأسباب أخلاقية كذلك.
وأتصور فى النهاية، أننا إذا كنا نسعى لأن يُتعرف بنا و أن نُرى، فإن لنا الحق كذلك فى أن نُنسى ونحجب سجلاتنا الرقمية، طالما إن ما نريد إخفائه يخصنا ولا يترتب على الإخفاء ضياع حقوق آخرين. وأتذكر هنا قصيدة الشاعر الفلسطينى محمود درويش “تُنسى كأنك لم تكن” والتى يختتمها بالقول: “فأشهد أنني حر وحي حين..أُنسى”.