ها قد قطعنا رحلة الصوم المقدس ووصلنا بنعمة الرب الى الأحد الأخير من الصوم. بدأت رحلة هذا الصوم بتقديم التوبة كشرط أول وخطوة أولى للوصول الى غايتنا العظمى وهى ملكوت الله، ومضت الرحلة صاعدة بنا عبر العديد من التجارب التى حملتنا خلالها نعمة الرب حتى قربنا من نقطة النهاية وهى نوال الاستنارة.
هذا هو الأحد الأخير من الصوم المقدس وهو الشهير بأحد المولود أعمى، لأن قراءة انجيل قداسه من انجيل (يوحنا ٩ ) تحدث بالمولود أعمى الذى صنع معه الرب يسوع معجزة عظيمة بأن فتح عينيه. بعد عمر طويل فى الظلام، نال هذا الرجل الاستنارة على يد الرب الذى طلى بالطين عينيه وطلب منه الاغتسال فى بحيرة سلوام.
تعلمنا الكنيسة أن هذه الاستنارة بعد الاغتسال تقابل المعمودية المقدسة التى بها ننال الروح القدس.
لم يكن هناك من سبب واضح أن يولد الرجل أعمى، حتى ان التلاميذ سألوا يسوع “يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ”. مثل الكثير من التجارب التى قرأنا عنها خلال رحلة هذا الصوم ولم يكن هناك سبب معروف او مفهوم لها، يقول لنا الرب اليوم انها كانت لمجده، لتظهر أعماله بالمجد. أصحاب هذه التجارب احتملوها زمانا طويلا وأخيرا كللتهم نعمة الرب بالخلاص والشفاء.
يقول الانجيل إن الرب يسوع تَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ … فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا”.
أطاع الرجل كلام الرب دون مناقشة فرأى النور.
لو كان الغرض من قراءة انجيل اليوم هو إظهار عظمة المعجزة—وهى دون شك عظيمة—لتوقفت القراءة عند هذا الحد. لكن القراءة تكمل فتحدثنا باستفاضة عن تذمر الفريسيين على يسوع واستدعائهم للرجل الذى شفى وأهله لاستجوابهم وأخيرا طردهم للرجل. “فَقَالَ يَسُوعُ: لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ. فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضًا عُمْيَانٌ؟ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَانًا لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ”. أى أن لب الموضوع ليس فقط نوال الاستنارة، لكن قبول أو رفض هذه الاستنارة، فالشيطان مازال يحرك البعض لانكارها ورفضها.
يدلل على هذا انجيلى عشية وباكر القداس. فى انجيل العشية من (لوقا ١٣: ٢٣ الخ ) يسأل واحد الرب: “يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟» فَقَالَ لَهُمُ: اجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجًا وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! افْتَحْ لَنَا. يُجِيبُ، وَيَقُولُ لَكُمْ … لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ، تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ! … هُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ” مرة أخرى يؤكد الرب ان الكثيرين ممن يظنون أنهم أولين لن ينالوا الملكوت لأنهم فاعلى ظلم.
وفى انجيل باكر من (متى ٢٣ ) يوجه الرب الويلات للكتبة والفريسيين العظام الذين جلسوا على كرسى موسى، لكن “كُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ … وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ … وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِل مَمْلُوآنِ اخْتِطَافًا وَدَعَارَةً. أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى! نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ” ويختم الرب كلامه بالبكاء عليهم، على أولئك الذين دعاهم وصنع وسطهم أعمالًا عظيمة (منها ما صنعه مع المولود أعمى) لكنهم رغم ذلك رفضوه، رفضوا ملكوت السموات “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا”.