فى ظل الغلاء الدرامى والمفاجئ الذى يجتاح المجتمع المصرى بعد تحرير سعر صرف الجنيه، تبدو محاولات التكيف مع المتغيرات الجديدة مهمة صعبة تتجاوز طاقة الغالبية العظمى من المواطنين ، وإلى جانب المعاناة المادية المباشرة، ثمة حالة من عدم التوازن فى ظل أوضاع اقتصادية جائت كضربة خاطفة، لأن موجة الغلاء الكاسحة تصاحبها رياح من عدم اليقين السياسى والاقتصادى، فالمؤشرات السلبية تطفو على السطح ولا أحد يعلم ما الذى يجرى فى مطبخ السياسية، وكيف يتم اتخاذ قرارات على هذا القدر من الخطورة، وما هى رؤية صناع القرار إزاء الحاضر والمستقبل، إذا كان ثمة رؤية!
وعادة ثمة سؤال تقليدى يتزامن مع موجات الغلاء وهو: كيف يمكن للناس أن تعيش؟ إلا أن موجة الغلاء الحالية تثير تساؤلات أكثر حدة من نوع: كيف يمكن لقطاعات واسعة من الناس أن تجد ما تأكل؟ فالأزمة قد امتدت لتطال أبسط الحقوق وهو الحق فى الغذاء، أى الحق فى التحرر من الجوع وسوء التغذية.
هذا لا يعنى أنه فى السابق لم تكن هناك قطاعات تعانى من الجوع أو على الأقل سوء التغذية، فقد كان هذا موجودا طوال الوقت، ودائما ما تحاول فئات عديدة التكيف مع أوضاع اقتصادية صعبة، ولكن المشكلة فى ظل الأوضاع الجديدة وغياب مؤشرات إيجابية إزاء المستقبل، ربما تكون فى فقدان قدرة قطاعات عريضة من المجتمع على التكيف و التعايش أو حتى التحايل.
ويرجع ذلك إلى أن سياق الفقر والإفقار الآن يبدو مختلفا، فإلى جانب التحولات التى شهدتها البلاد ،وأثرت بشكل واضح على كافة أشكال الترابط والتضامن الاجتماعى التى كانت تشكل، فى السابق، شبكة حماية اجتماعية لحد ما، فإن التدهور السريع للجنيه وتحرير سعر الصرف بين ليلة وضحاها، يأتى فى ظل غياب أطر للحماية الاجتماعية سواء تلك التقليدية أو المؤسساتية، فلا الأسرة بصورتها التقليدية قادرة على تقديم الحماية، ولا الدولة راغبة فى الوفاء بإلتزاماتها، وبين هذا وذاك تسعى الدولة بكل السبل للقضاء على المجتمع المدنى الذى كان دائما الحيز الفاعل بين الأسرة والدولة.
وعلاوة على ذلك فإن المجتمع تزيد مؤشرات تراجع قدرته فى الحصول على الاحتياجات الأساسية وفى مقدمتها الغذاء، هو ذاته الذى تغيرت، على مدى السنوات الماضية، مؤشرات أنماط حياته باتجاه النزوعات الاستهلاكية إلى الحد الذى أصبح من الصعب الفصل بشكل واضح بين ما يُعتبر من السلع الأساسية وبين ما يُعتبر من السلع الاستهلاكية ، وربما يفسر هذا الصدمات المتتالية التى يعيشها المواطنون كلما ذهبوا إلى الأسواق بسبب اتساع دائرة الاحتياجات، حتى داخل بند الغذاء ، فأنماط استهلاك الغذاء لم تعد هى ذاتها كما كانت فى الماضى، تماما مثل النفقات المخصصة للصحة والتعليم والسكن، فهى لم تعد كما كانت فى السابق.
وفى حين أن مشكلة الغلاء تشكل محور الحديث اليومى لكافة قطاعات المجتمع، فإن مسألة الحق فى الغذاء غائبة ربما بشكل كامل سواء فى الخطاب السياسى أو الخطاب الإعلامى ،ومن المفارقات أن حضور الغذاء فى الإعلام يأتى فقط ضمن النصائح الطبية، وبشكل مكثف فى برامج الطبخ التى باتت تنافس نشرات الأخبار وبرامج التوك شو وتجد إقبالا من جمهور المشاهدين أو بالأحرى المشاهدات، فصارت أكثر جاذبية من مطابخ السياسية التى لا تنتج إلا طبخات سياسية رديئة.
من المؤكد أن مثل هذه البرامج قد لا تكون بالنسبة لمن لا يملكون إلا مساحة للفرجة وربما التمنى، فهى لا تناقش الجوع، ولكن تغازل الشهية ، ويذكرنا هذا بألاعيب عادل إمام فى أفلامه التى لا تخلو من مشهد يأكل فيه بنهم شديد فيحظى بإعجاب مشاهد معدم فى مقاعد الترسو فى دار سينما رديئة، ولكن هذا المشاهد المعدم المعجب بصورة البطل الأكول، قد لا يكون لديه ما يفعله، حتى يعيش ما يراه، سوى أن يسرق أو يرتكب جريمة.
وهكذا فقد نشك الآن، وأكثر من أى وقت مضى، فى المثل القائل “مافيش حد بينام من غير عشا”. وربما نخاف الآن، وأكثر من أى وقت مضى، من المثل القائل: “الجوع كافر”ويبقى الحق فى الغذاء حق أساسى لكل إنسان، ولكن ما مصير هذا الحق فى فى سياق بات يعتبر الحديث عن الحقوق جريمة؟.