“احملوا نيري وتعلموا مني تجدوا الراحة لنفوسكم، فأنا وديعٌ متواضعُ القلب، ونيري هِّينٌ وحِملي خفيفٌ”(مت11: 29-30)
“احملوا نيري وتعلموا مني تجدوا الراحة لنفوسكم، فأنا وديعٌ متواضعُ القلب، ونيري هِّينٌ وحِملي خفيفٌ”(مت11: 29-30)
نتأمل شخص المسيح الوديع، الذي يفتح لنا طريقًا لراحة النفس في الهدوء، وسلام القلب، والِحمل الخفيف، نلمسه في وداعته، وتواضعه. وأما ما يدور حولنا من عنف يزداد كل يوم هو حقيقة مؤلمة، ويظهر في أشكال مختلفة ومتنوّعة، بالكلام، والمواقف، والسلوكيّات… حيث يعتقد الإنسان أن العنف هو المخرج الوحيد من الأزمة، ولكن نختبر أن العنف يولد عنفًا. وعلى العكس، مَن يشعر أن وداعة المسيح تلمسه في داخله، يكتشف طريقًا آخر للخروج من دائرة العنف المغلقة، وهو نداء الوداعة الذي يمنحنا أفقًا واسعًا غير محدود في ساحة استقبال المسيح لنا بقوله ” تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والرازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم”. (مت11: 28) إذًا شخص المسيح هو الوحيد القادر أن يعطينا الحياة الوديعة، ويجدد معناها في حياتنا اليومية فنكتشف أبعادًا جديدة، وعندما نتقابل معه في عمق أعماقنا نجد الوداعة، والهدوء، والسكينة، رغم ما نشعر به في يومنا من عنف يصدر منا اتجاه الآخر، ويصدر من الآخر تجاهنا، ونراه في العالم، ونعيشه في تلك الأيام بشدة في مصرنا الحبيية، وأصبح مجتمعنا ملئًا بالعنف المدمر، والقتل، والتعذيب، والاضطهاد …الخ.
يخلق شخص يسوع المسيح عالمًا جديدًا، فقد عاش هو في حياته اليومية الوداعة، فتحققت فيه نبوءة النبي أشعيا: “… لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع ُأحدٌ صوته”.(مت12: 19) عاش المسيح وسط مجتمعه بهدوء النفس، بوداعة في تعامله مع الناس جميعا، كشخص رقيق يعطي كل مَن يسأله الشفاء، يداوي القلوب المجروحة من العنف، حتى أن قصبة مَرضوَضة: أي زرع ضعيف ربما لا قيمة له في نظر البشر، هولا يستهين به ولا يكسره، بل يسنده حتى يصح. عاش يسوع إنسانًا حقيقيًا بكل ما تعني الكلمة من معنى، فهو مَن تكلم بصدق وحق لا يخاف أحدا، وما حابي الوجوه، احترم الإنسان في ضعفه وعجزه، وأعانه بحريه في سؤاله “إن كنت تريد!”. أراد المسيح أن يبني حياة البشر على العدل والاحترام المتبادل كون الآخر مقدّرا وفريدًا ومميزًا في اختلافه…
ولكن لماذا هذا العنف في العالم؟ هل حب في السلطة، أم الجاه، أو النفوذ، والمال… ولأجل أن يصل الإنسان لهذا ماذا يفعل؟ وكيف يعيش حتى يصل للمركز والسلطة؟ نجد الرد في أقول للنبي أشعيا:” حُكَّامُكِ قومٌ متمردون وشركاء لقطاع الطرق. كلهم يحبُّ الرشوة ويسعى وراء الربح. لا يُنصفون اليتيم بشيءٍ, ولا تصل إليهم دعوى الأرملة”
(أش1: 23) ” إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيَّ عنكم، وإن أكثرتم الدعاء لا أستمع لكم، لأن أيديكم مملوءةٌ من الدماء. فاغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أعمالكم من أمام عينيَّ وكفوا عن الإساءة. أغيثوا المظلوم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة” (أش1: 15- 17 ). وأيضا قال في سبيل توزيع ثروات الأرض: ” ويل للذين يضمون بيتًا إلى بيت ويصلون حقلا بحقلٍ، حتى لا يبقى مكانٌ لأحد، فيسكنون في الأرض وحدهم.” ( أش 5: 8). واخيرًا “لا تتكلوا على الظلم، وبالاختلاس لا تكسبوا، إذا كثرت ثروتكم، فلا تمل قلوبكم إليها، وأن الرحمة لك يارب، فتجازي الإنسان بحسب عمله”. (أش 35: 11 ،13).
فعلينا أن ننتبه لحياتنا ونراجع مواقفنا وتصرفنا ولنأخذ عِبرًا من الأحداث والواقع الذي نعيش فيه، أن السلطة خدمة، وحب، وتضحية، وبذل الذات… ونتعلم من البابا بندكتس السادس عشر عندما شعر في مراجعة ذاته، وفحص ضميره أمام الله أن مسؤولية الكنيسة الجامعة عبء ثقيل على كاهل صحته الضعيفة بتواضع أمام العالم، طلب ببساطة أن يتخلى عن سلطته طوعا لخير الكنيسة، وأيضا سبقه غبطة أبينا البطريرك الأنبا انطونيوس نجيب. فهذه شخصيات يحتذي بأمثالها. فليراجع كل رئيس، ومسؤول نفسه إن كان قادرًا أن يحمل المسؤولية خير قيام، فليست المسؤولية كرسيا فقط أو لقبًا، حتى لا نقع في فخ العنف في الدفاع عن السلطة بدون وجه حق، وبالعنف نقتل أطفالاً وشبابًا ونهضم حقوق الفقراء … علينا أن نتشجع مهما كان العنف والظلم في مجتمعنا، يقول لنا أشعيا النبي: ” شدوا الأيدي المسترخية وثبّتوا الركب المرتجفة. قولوا لمن فزعت قلوبهم : تشدّدوا ولا تخافوا، ها إلهكم آتٍ لخلاصكم. يكافئكم على أمانتكم” (أش35: 3)
فعلّم يسوع قال: “سمعتم أنه ِقيلَ: عَينٌ بِعَينٍ وِسنٌّ بسنٍّ. أمّا أنا فأقول لكم:لا تقاوموا مَن يسئُ إليكم”.(مت5 : 38-39) يدعونا يسوع لطريق الوداعة التي ربما يفهمها العالم طريق الخنوع، واستسلام، وخوف… لا أظن ذلك لأن المسيح لا يعلمنا السكوت عن الخطأ مهما كانوا الأشخاص ونوعيتهم، فهو طيلة حياته يوبخ رؤساء الكتبة، ومعلمي الشريعة على حَرفيتهم لتفسير الشريعة للناس؛ على سبيل المثال الاهتمام بيوم السبت أكثر من الاهتمام بالإنسان نفسه ” أيحل الشفاء في السبت!” ( مت 12: 10). وأيضا يغضب يسوع ويقلب موائد الصيارفة عندما يجد مهانة للهيكل وتحويل الناس له إلى مكان للبيع والشراء، عوض عن مكان عبادة وصلاة للرب فقال:” بيتي بيت الصلاة وانتم جعلتموه مغارة للصوص” (مت 21: 13) إذًا لا يبدأ يسوع بالعنف، ولا يؤذى أحد، ولا يرضى بالظلم، ولا يسكت على الخطأ، بل يعيش بالحق في حياته، وكلامه، وتعليمه ربما في نظرنا نحن البشر تفوق حدودنا، ومفاهيمنا ولكنها حقيقية ونختبرها في مواقف معاشه هي التي تثبت في النهاية… وعلمنا يسوع أيضا “سمعتم أنه قِيلَ لآبائكُم: لا تقتل, فمَن يقتل يستوجب حكم القاضي. أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيِه استوجب حكم القاضي، ومَن قال لأخيه: يا جاهل استوجب حكم المجلس, ومن قال له: يا أحمق استوجب نار جهنم”. (مت5: 21-22). إن حياة الإنسان غالية، ملكُ الذي وهبها، ولا أحدَ له سلطة أن يتصرف فيها، فإن كانت الحياة هبة من الله، فأيضا الوداعة هي كلمة الله التي يعيش بها الإنسان مع أخيه، فإذا كانت كلمه الله تملك وتفيض بقلوبنا نعمة وحقًا بفضل الإيمان بشخص يسوع، فالوداعة كالنور أعظم وأقوى من العنف، والوداعة في حياة الناس هي مبدأ كيانهم البشري، ووجودهم، إذًا ليس العنف هو الحل، فهو يدخل البشر في عنف أعظم. ولكن نحن نكتشف معنى الوداعة حين نختبر التحرير من العنف، في العهد الجديد لا تواطؤ مع العنف، لا يكتفي بوصية عدم القتل ولكن دعوة لكل المسيحيين أن نعيش الوداعة بالمحبة للجميع فنستحق أن يقول لنا المسيح هذه التطويبة ” طوبى للودعاء ” (مت 5: 5). والآن نتسأل كيف نعيش الوداعة في حياتنا الشخصية، ومع الآخر، وفي واقعنا اليومي العنيف؟؟؟ هل اختبرت مواقف عشت فيها فضيلة الوداعة، ما نتيجتها في حياتك؟
صلاة
يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبنا مثل قلبك، أنتَ الذي قلت ” تعلموا مني فأنا وديع ومتواضع القلب” لا تزال كلمات يسوع صوتًا صارخًا ضد كل عنف الإنسان تجاه أخيه. فَمن المرات القليلة التي طلب فيها يسوع أن نتعلم منه شيئًا هذه الطلبة: ” تعلموا مني فأنا وديع ومتواضع القلب”، وبذلك ينقل إلينا مجتمع السماء إلى مجتمع البشر. فاجعلنا نعيش طريق الوداعة حتى لو كان هذا ضد تيار العالم الذي نعيش فيه اليوم. ساعدنا أن نكون بلسم للإنسان العنيف، فيتحرر من عنفه، ويمتلئ بوداعتك وحبك ورحمتك. فنعلن ونشهد أنك الإله الوديع المحب لكل إنسان. آمين