إن دراسة ألحان البصخة المقدسة تحتاج إلى مقالات عديدة، وتحليلها ومعرفة أسرار موسيقاها يأخذ وقتاًطويلاً وصفحات عديدة، ولن نستطيع في فترة قصيرة أن نتناول ألحان أسبوع الآلام بالدراسة الوافية، ولكن سأكتفي بالتكلم عن جزئية معينة في هذا الأسبوع العظيم، الذي سكبت فيه الكنيسة تراثها الإيماني والروحي والطقسي والموسيقي العظيم في صلواتها،فاسبوع الآلام هو أقدس فترات السنة والتي فيها نخصص أوقاتا كثيرة في العبادة والتأمل والصلاة والتسابيح، لنتبع رب المجد في كل خطواته المباركة،ونقضي كل ساعة من هذا الأسبوع نعيشها مع المصلوب،نحزن لآلامه، ونفرح للخلاص الذي أتمه على الصليب المقدس.
ونحن نعلم موسيقياً أن إيجاد لحن بسيط في “ميلوديته” (الخط اللحني) ولكنه جميل جدا ومعبر عن معاني الكلمات ليس بالأمر السهل، ولكنه يحتاج إلى موهبة تلحينية فريدة، لأنه ربما تُوجد جُمَل لحنية سهلة، ولكنها لاتثبت في الذهن ويصاحبها الملل إذا تكررت كثيرا، ولكن الكنيسة صاحبة التراث الموسيقي العظيم استطاعت أن تحقق هذه المعادلة الهامة، فاستطاعت بهذا اللحن الجميل في نغماته، البسيط في إيقاعه وقالبه الموسيقي،والمعبر عن كلماته بكل جداره، أن تبقيه محفوظا في آذان وأذهان ووجدان الشعب الكنسي كله على مدار مئات الأعوام، وكلما تأتي سنة جديدة نشتاق مرة أخرة إلى التسبيح والصلاة به، وهذا هو مبدأ الكنيسة في طقسها،توصيل الإيمان والأفكار الروحية عن طريق جمل لحنية بسيطة في إيقاعاتها وألحانها، تثبت في عقول وقلوب المؤمنين، من خلال جمال “ميلودياتها” والتعبير بالموسيقى عن كلمات وأفكار الألحان.
موسيقية لحن يوداس الذي يقال في يوم خميس العهد:
هذا اللحن من مقام الراست ومعناه (الأساس أو المستقيم)؛ لذلك فهو يُعتبر المقام أو السلم الرئيسي في الموسيقى الشرقية، وهو مقام يعبر عن الجدية والوقار،ونغمات السلم كالآتي: (دو، رى، مي نصف بيمول، فا، صول ، لا، سي نصف بيمول، ثم نغمة دو الأعلى)، ولكن مساحة اللحن هنا هي خمس نغمات فقط من الأساس وحتى الدرجة الخامسة أي (من دو وحتى صول).
اللحن يعتبر فكرة واحدة عبارة عن جملتين موسيقيتين، الأولى سؤال وتنتهي عند نغمة الدرجة الرابعة (فا)،والثانية نعتبرها جواب ينتهي على الركوز الأساسي للمقام (دو).
يبدأ بالمرد الذي يقول يهوذا (6 مرات) مخالف الناموس، وهذا المرد هو الفكرة الموسيقية التي سوف تتكرر 17 مرة،يبدأ هذا المرد بكلمة يوداس ( 4 مرات) بجملة لحنية نعتبرها سؤال، ويركز عند رابعة السلم (فا) وهذا الركوز اللحني يدل على التعجب أو الحسرة أو التساؤل، وكأننا نقول ليهوذا اسخريوطي (لماذا فعلت هذا؟ لماذا سلمت سيدك الذي أحبك إلى الموت وخنت المحبة والصداقة؟)، ثم يكمل بالجملة الجواب حيث يُكَمِل كلمة يهوذا (مرتين)ويقول مخالف الناموس، ونلاحظ أنه إنتهى في كلمة الناموس على نغمة الأساس (دو)، وهذا يوضح أن الناموس أو الوصية هي أساس الخير وأساس الصلاح والبر الذي كان يمكن أن يصل إليه يهوذا بالتوبة والرجوع، ولكنه فضل اليأس والانتحار، وكأن رجوعنا إلى نغمة الأساس تُعَبِر عن احتياجنا إلى الرجوع إلى الأساس والأصل المريح وهو تنفيذ وصايا الله التي لم ينفذها يهوذا الاسخريوطي.
نلاحظ أيضا وصول اللحن إلى الذروة على الدرجة الخامسة (صول)، التي تسمى في الموسيقى الشرقية (الغماز)، وفي الموسيقى الغربية تسمى (المسيطرة)،وفيها إحساس الصراخ عندما وصلنا إلى كلمة يوداس (المرة الخامسة)، للتعبير عند الحسرة والندم التي صاحبت يهوذا، ولكنه كان حزناً وندماً يائساً لم يُحَوِله إلى التوبة، والكنيسة تصرخ بهذه الأحاسيس حتى لا يصير أحد مننا مشابه ليهوذا في يأسه.
نلاحظ أيضا أن كلمة يوداس تكررت 6 مرات، ونحن نعلم أن رقم 6 في تفسير الآباء يرمز إلى النقصان أو الشر أو الهلاك، كمافهو يُشير برقم 666أيضا إلى الوحش في سفر الرؤيا، وهنا يعبر هذا الرقم عن يهوذا الذي لم يكن قلبه كاملا مع الله، وتشير إلى كل إنسان يرفض محبة الله أو إتباع وصاياه فيكون ناقصا وليس كاملا.
هذا اللحن يتركب على إيقاع وزنه ثلاثي وهذا الوزن الإيقاعي لا يُستخدم في الكنيسة إلا قليلا؛ لذلك فهو لحن مختلف عن معظم الألحان، كما أن سرعته ينبغي أن تكون متوسطة (حوالي 90-100 نبضة في الدقيقة) لتُعَبِر عن الحزن والشجن كأنه مارش حزين، أما إذا صارالإيقاع أسرع سوف يعطي إحساس الفرح وهذا غير مطلوب في هذه المعاني
نلاحظ أيضا إنتهاء الجملة اللحنية والفكرة بوقفة أو زمن أطول من الإيقاع الطبيعي قبل تكرار الفكرة الموسيقية مرة أخرى (تسمى في الموسيقى كرونا)، وهذا التطويل يعطي نوعا من الإيقاع المكسور الغير منتظم، وهذا مناسب أيضاً للفكرة، فنحن نتكلم عن يهوذا الاسخريوطي الذي كسر كل الفضائل وكسر المحبة العميقة التي أعطاها الله له.
نجد أيضاً في طقس هذا اللحن أن الكهنة والشمامسة يدورون دورة عكسية في الكنيسة، فدورات الكنيسة الطبيعية تكون بعد نزولهم من الهيكل يبدأوا بالدوران (من الجهة البحرية حتى يصلوا إلى الجهة القبلية) ثم يصعدون إلى الهيكل، فيكون الدوران عكس عقارب الساعة وهذا يعطي معنى أننا في الكنيسة نكون خارج الزمن نعيش الأبدية، ولكن في حالة دورة يهوذا (من الجهة القبلية حتى الجهة البحرية) تكون مع الزمن؛ لأن يهوذا بمخالفته للناموس أصبح يعيش في الزمن فقط فاقدا للأبدية، كما يصاحب اللحن ألة الإيقاع الناقوس الذي يُضرَب بأسلوب معين، كنوع من التنبيه والإنذار أو ناقوس الخطر لأي إنسان يتمثل بيهوذا.
القالب الموسيقي للحن يوداس كما نرى في الرسم البياني:
عبارة عن فكرة موسيقية تتكرر ولكن في مجموعات من الأفكار كأنها أربعة مشاهد، مع وجود المرد في بداية كل مجموعة، المجموعة الأولى فيها الفكرة الموسيقية تتكرر ثلاث مرات حيث يقول: “بالفضة بِعتَ المسيح لليهود مخالفي الناموس – أما مخالفوا الناموس أخذوا المسيح سمروه على الصليب – في موضع الإقرانيون”، وهنا الثلاثة أفكار تعبر عن مشهد الثلاثة صلبان، كما قيل عند السيد المسيح أنه أحصي مع الأثمة، أما المجموعة الثانية تكرر فيها الفكرة الموسيقية خمس مرات، وكأننا أمام مشهد جروح المسيح على الصليب حيث يقول: “باراباس المدان أطلقوه – والديان السيد صلبوه – في جنبك وضعوا حربة – ومثل لص على خشبة سمروك – ووضعوك في قبر يامن من القبر أقمت لعازر”، وهي الجروح التي نفذت إلى جسد المسيح، إكليل الشوك والمسامير الثلاثة والحربة، ويذكرنا هذا بالخمسة ثقوب الموجودة على القربانة، ثم نأتي إلى المجموعة الثالثة وهي أيضا أفكار ثلاث يقول فيها: “لأنه كما أن يونان في ثلاثة أيام ظل في بطن الحوت – هكذا مخلصنا أقام ثلاثة أيام – مع الذين ماتوا وختموا القبر”، وهنا نجد مشهد القبر المقدس الذي مكث فيه رب المجد ثلاثة أيام، وفي النهاية تأتي المجموعة الرابعة والأخيرة من ثلاث أفكار موسيقية أيضا “بالحقيقة قام ولم يعلم الجند – أنه بالحقيقة قام مخلص العالم –تألم وقام لأجل جنسنا يارب المجد لك آمين ” وهنا مشهد القيامة المجيدة حيث قيامة السيد المسيح بعد ثلاثة أيام.
وكنيستنا الحكيمة لم تُنهي فكرة اللحن على موضوع تبكيت يهوذا فقط، ولكن استغلت الكنيسة لحن تبكيت يهوذا ليس لأجل بقاءنا في الأجواء الكئيبة الحزينة اليائسة، ولكن خرجت منها بأفكار إيجابية، أن هذا الحزن سيتحول إلى فرح عندما يقوم المخلص من الموت صانعا الخلاص العظيم، لقد حول ربُ المجد الشر إلى خير، ويُذَكرنا هذا بما قاله يوسف الصديق كرمز للمسيح ” أنتم قصدتم بي شرا والله قصد به خيرا”، وهذه فلسفة الكنيسة في الحزن، أن الحزن في المسيحية هو جسر نعبر به إلى الأمجاد السماوية حينما نحب الله ونفعل وصاياه.
ثلاثة ألحان بنفس النغمات (من الخيانة إلى الأمانة):
في يومي خميس العهد والجمعة العظيمة نتلاقى مع ثلاثة ألحان، من ضمنهم لحن “يوداس” (يهوذا مخالف الناموس) الذي يقال في باكر خميس العهد بعد الابركسيس الحزايني، وتُكرر نفس هذه النغمات في جزءالأخير من لحن “آجيوس” الحزايني (قدوس الله قدوس القوي) الذي يقال في الساعتين السادسة والتاسعة من يوم الجمعة العظيمة، ونستمع مرة ثالثة لنفس النغمات في لحن “أريباميفئي” (أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك) الذي يقال في ختام الساعة السادسة يوم الجمعة العظيمة، وتُعتبر موسيقى هذه الألحان من أكثرالألحان تأثيرا على مشاعر ونفوس المؤمنين، بل أن معظم الشعب القبطي يحفظ نغماتها على ظهر قلب ويرددها بخشوع، مع أن هذا الألحان لاتقال في الطقس الكنسى إلا في مرات قليلة جداً،<