كتبت هذا المقال قبل مثول الجريدة للطبع فجر أمس السبت,وصباح اليوم عندما يلتقطها القارئ تكون النتائج النهائية للاستفتاء علي مشروع الدستور في طريقها للظهور وتعرف مصر أين تمضي:إلي الأمام نحو الترتيب للانتخابات
كتبت هذا المقال قبل مثول الجريدة للطبع فجر أمس السبت,وصباح اليوم عندما يلتقطها القارئ تكون النتائج النهائية للاستفتاء علي مشروع الدستور في طريقها للظهور وتعرف مصر أين تمضي:إلي الأمام نحو الترتيب للانتخابات البرلمانية في حالة حسم نتيجة الاستفتاء بنعم أو إلي الخلف في إعادة المسار لانتخاب جمعية تأسيسية جديدة وكتابة مشروع دستور مرة أخري في حالة حسم نتيجة الاستفتاء بلا.
لكن أيا تكون نتيجة الاستفتاء يجب الاعتراف بأن مصر تعيش ظروفا عصيبة حرم فيها المصريون من استقبال دستورهم بفرح وأمل في المستقبل,بل تجثم حالة من الكآبة علي صدر مصر نتيجة الصراع المرير الذي عاشته خلال مشوار ميلاد هذا الدستور وما أفضي إليه من انقسام حاد بين المصريين وصل إلي حافة الحرب الأهلية,ولا أحد يعرف ماذا يأتي بعد ذلك؟هل يقبل الفصيل الذي خسر الاستفتاء ما انتهي إليه من نتائج ويعد عدته للمرحلة المقبلة,أم يرفض الاعتراف بالنتيجة ويواصل الاحتجاج والنزول إلي الشارع؟
المؤشرات التي تفضي إليها أحداث الأسابيع الماضية لا تدعو إلي التفاؤل,ولعلها هي التي حدت بي إلي كتابة عنوان هذا المقال,ففي ظل الانقسام الحاد الذي يعيشه الشارع المصري والمواجهات الإرهابية العنيفة التي انفجرت بين فريقيه والغياب الكارثي لحكم القانون وسيادة الدولة تتولد أفكار مرعبة عن قواعد اللعبة السياسية التي ستحكم الفترة المقبلة وكيف سيحسم المصريون خلافاتهم السياسية حول شكل هذه الدولة ومستقبل هذا البلد.
لقد عشت علي مدي حياتي السياسية أدافع عن الدولة المصرية التي تجمع كل المصريين وأوكد علي أن أركان هذه الدولة وسلطاتها قوية وراسخة وأنه مهما عاني أي فصيل من المصريين من تفرقة أو تهميش أو انتقاص في الحقوق أو إقصاء ستظل الدولة قوية أمام أية نزعات عنصرية أو دعاوي للفرقة أو الانسلاخ…وبناء عليه ظللت دوما أقول إنه لا يمكن أن تحل مشاكل أي فئة من المصريين بالمنهج اللبناني الذي يحافظ علي الدولة والقانون والجيش الوطني شكلا بينما يعلي فوق ذلك كله كيان العصبية والعشيرة والميليشيات المسلحة دفاعا عن الهوية الخاصة وذودا عن المكاسب والمصالح….لكن في الوقت الذي ماأزال أتمسك بقناعاتي أن يقف جميع المصريين-رغما عن خلافاتهم واختلافاتهم-تحت مظلة الدولة وسيادتها وقانونها,تعالوا لنتفحص المشهد الذي ساد الساحة السياسية والشارع طوال الأسابيع الماضية لنكشف مواطن الخطر ولنعرف إلي أين نمضي.
يبدأ المشهد برئيس وصل إلي قمة السلطة بناء علي ما أفضت إليه أول انتخابات رئاسية تأتي برئيس مدني للسلطة وبعد أن وعد المصريين بأنه وإن كان مرشحا للرئاسة من معسكر الإخوان المسلمين وذراعهم السياسية حزب الحرية والعدالة إلا أنه فور وصوله للسلطة سوف يتخلي عن انتمائه وتبعيته لهم ويسلك كرئيس لكل المصريين,يرعي مصالحهم ويحل مشاكلهم ويوحد بينهم…لكن بعد مرور فترة وجيزة علي تقلده المنصب- وبعد محاولات غريبة لتحدي واستفزاز السلطة القضائية-خلع هذا الرئيس قناعه الوطني وكشف عن توجهه المنحاز تماما لفكر جماعة الإخوان ومخططاتهم للانقضاض علي كل أركان الدولة ومؤسساتها ومناصبها القيادية بهدف الاستحواذ والهيمنة وضمان تحويل مصر إلي دولة دينية-ولا أقول إسلامية- تتشدق بتطبيق شرع الله ونشر الفضيلة في الأرض بينما أدواتهم لإدراك ذلك لاتخلو من الكذب والخداع والمواربة والمؤامرة والعنف والإرهاب الذي يصل إلي حد التصفية والقتل للخصوم….ولا غرابة في ذلك إذا استدعينا مشهد حشود هذه الجماعة واستنفار قادتها وأنصارها عشية حسم نتيجة انتخابات الرئاسة,حيث وقفوا يروعون المصريين ويتوعدون بحرق مصر إذا لم يفز مرشحهم بالرئاسة,حتي أن كثيرا من المصريين البسطاء الشرفاء استسلموا لفكر فوزه إذا كان في ذلك حماية مصر وتجنيبها الحرب الأهلية وإراقة الدماء.
استمر الرئيس مرسي في رعاية مخططات أخونة الدولة المصريةحتي تصور- أو صور له مستشاروه-أنه قد دان له كل ما فيها فأقدم علي مغامرة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث وأصدر إعلانه الدستوري الصاعق في نوفمبر الماضي والذي انقض به علي السلطة القضائية مغتصبا سلطة التشريع لنفسه ومحصنا قراراته ضد الطعن عليها…وهنا اشتعل الشارع المصري وثار المصريون-بخلاف جماعته وعشيرته وأنصاره-احتجاجا علي هذه الهجمة علي أركان الدولة ودعائمها,فما كان من الرئيس مرسي إلا أن تمادي في عناده مرددا أنه يحظي بتأييد90% من المصريين وانطلق نحو إعطاء الضوء الأخضر للجمعية التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور لإنهاء مشروع الدستور علي عجل ودفعه عنوة إلي الاستفتاء الشعبي رغما عن انقسام المصريين الحاد حوله.
لم يكف الرئيس مرسي دفعه بالأمة إلي الإنقسام ولم يراجع نفسه إزاء الاستقالات المتتالية لمستشاريه اعتراضا علي سياساته وقراراته,لكنه واصل عناده محصنا نفسه وقصره الرئاسي من حصار جموع المصريين,وتركهم هناك فريسة لهجمة انتقامية بربرية شنها عليهم أنصاره وعشيرته كانت بمثابة يوم أسود في تاريخ الثورة المصرية وفي سجل حكمه حيث باغت أنصاره المسلحون المتظاهرين العزل وأعملوا فيهم الترويع والضرب والقتل بلا هوادة وسط سلبية وصمت وعدم تدخل من جانب قواته الأمنية المتمركزة في المكان لإيقاف ذلك العبث…وهنا تكشفت أولي بوادر تفكك الدولة وغياب مؤسساتها وسلطاتها في ظل تساؤلات جادة وخطيرة عن مصير المعتدين وهل تم تعقبهم والقبض عليهم لتقديمهم للعدالة حيث تتجه الشكوك إلي تعمد تركهم يفلتون بفعلتهم طالما أنهم كانوا يجهرون بمؤازرتهم للرئيس والدفاع عن مؤسسة الرئاسة…وهنا أيضا يظهر أول ملامحلبننة الدولة المصرية.
أما ماحدث منذ أكثر من أسبوعين ويستمر يحدث ولا يستحق حتي أن يطلق عليهلبننة الدولة المصرية لأنه لم تعد الدولة موجودة في سياقه علي الإطلاق فهو حشود أنصار الشيخ حازم أبو إسماعيل التي قامت بحصار مدينة الإنتاج الإعلامي نحو ثمانية أيام رافعة شعاراتتطهير الإعلامالحر والذي نال غضبها إزاء استمرار فضحه مؤامرات ومهاترات تيارات الإسلام السياسي وفضائحمطبخ مشروع الدستور….حاصرت تلك الحشود مدينة الإنتاج الإعلامي وفرضت إرهابها وسطوتها ووصايتها علي الدخول والخروج ولم نتورع في الاعتداء علي كل من تريد التنكيل به أو عقابه وسط تهديدات صريحة معلنة قوائم الاغتيالات التي تنتوي أن ترتكبها…عاشت تلك الحشود أكثر من أسبوع تمارس ذلك الإرهاب والدولة لاتحرك ساكنا…أقامت تلك الحشود في المكان وبدأت تقيم لنفسها سبل الرعاية والمرافق والدولة لاتحرك ساكنا…استمرأت تلك الحشود أن تغتصب صولجان القانون وتطبق القواعد التي ترتئيها والتي رواها كل من ذهب هناك والدولة لا تحرك ساكنا…غابت الدولة بشكل كامل وتركت مكانها شاغرا للفوضي والغوغائية والعنف!!
ولا يستغرب أحد بعد ذلك للمنحي الكارثي الذي هوت إليه الأمور حين تحركت تلك الحشود-واعتقد البعض أنه تم إنهاء احتلالها لمدينة الإنتاج الإعلامي-لكنها تحركت نحو مدينة القاهرة والجيزة حيث شنت مساء السبت قبل الماضي15ديسمبر يوم الاستفتاء هجمات بربرية مباغتة علي مقر حزب الوفد وجريدته وأرسلت تحذيراتها وإنذاراتها لسائر الصحف المستقلة بأنها قادمة لتأديب القائمين عليها وعقابهم والانتقام منهم لتهجمهم علي تيارات الإسلام السياسي ورئيس الجمهورية وسياساته التي شقت البلاد إلي نصفين…ومرة أخري حدث كل ذلك في ظل تقاعس أمني رهيب وتراجع لمؤسسات الدولة وانحسار لسلطة القانون وصمت كامل لرئيس الدولة حتي أن الكثيرين رددوا الحقيقة المفزعة حين قالوا:الآن لا توجد دولة وكرسي الرئاسة شاغر…فماذا بعد؟
ذلك يأتي بنا إلي عنوان هذا المقال:لبننة المسألة المصرية,وعذرا أنني أقول المسألة ولا أقول الدولة لأنه للأسف لم تعد الدولة موجودة فقد تنازلت عن كل سلطاتها وملامحها…فماذا بعد؟…أنا أحذر من إنزلاق مصر بعد كل ما حدث إلي ظهور الميليشيات المسلحة للجماعات السياسية المتناحرة لتأخذ كل جماعة الأمر بيدها وتدخل مصر في عصر إراقة الدماء طالما أن المصريين متروكون بلا دولة وبلا قانون وبلا رئيس لكل المصريين.