قبل أن ألتقي بزوجي ممدوح كنت قد قرأت سفر راعوث(أحد أسفار العهد القديم بالكتاب المقدس),ولأن هذا السفر يأخذ إلي حد كبير طابع السرد القصصي,فأجدني أتمثل شخوصه حقيقة حاضرة أمامي…أحببت راعوث الزوجة المتفانية في حبها لزوجها في حياته ومماته…والكنة المخلصة لنعمي حماتها وإصرارها علي الرحيل معها بعد وفاة حميها…وتمنيت أن ألتقي بنعمي في يوم ما…نعمي التي تخليت عن ذاتها وأرادت أن تطلق كنتيها (زوجتي ولديها) الراحلين للعودة إلي أراضيهما وعائلتيهما حيث استجابت أحدهما وأصرت الثانية (راعوث) علي البقاء بجوار حماتها العجوز الوحيدة…
مرت السنون وتزوجت وتقابلت ونعمي الجديدة….وأسمحوا لي أن أحدثكم عنها….عن الأم زاهية والدة زوجي التي أقضيت إلي جوارها نحو خمس سنوات(هي عمر زواجنا) فرأيت فيها مثال الحماة المحبة المضحية…كانت وهي التي تجاوزت السبعين تصر علي إعداد الطعام لي بنفسها عند زيارتنا لها متحاملة علي ضعف جسدها…غير عابئة براحتها…لمست صلاتها من أجلي في أمور حيوية…لم تنطق بإساءة أو نميمة…أشياء وأشياء علي كثرتها تضاءلت معها خمس سنوات كاملة مضت كأنها طرفة عين….فهكذا تكون الأيام والسنون السعيدة…لحظة قصيرة في عمر الزمن…
هاهي الأم زاهية ترقد بالعناية المركزة بالمستشفي حزنا علي رحيل الابنة الكبري(سناء) بعد أن قاطعت الزاد والنوم…ملت إليها…كان حديثها المتهدج بمثابة الوداع الأخير…قال الطب كلمته:الحالة حرجة جدا…قضيت ليلتي أنتخب بصوت عال وأتضرع إلي الله لحدوث المعجزة صباح اليوم التالي كنا نلهث للإسراع بإحضار دم من فصيلة خاصة(كما أوصي الأطباء)مضينا نصارع الطريق والزمن وأنا أقول لنفسي:إن الدم كالماء منه الحياة…وستتحقق المعجزة….
في صباح الأربعاء السادس والعشرين من تشرين الأول(أكتوبر) الماضي وبينما أتهيأ للذهاب إلي عملي بالجريدة وحضور انتخابات نقابة الصحفيين جاء رنين هاتفي المحمول ليخبرني عن النهاية…رحلت الأم زاهية عن عالمنا الحاضر بعد ثمانية عشر يوما من رحيل سناء…وها هو الحادي والعشرين من آذار(مارس) مر علينا ولأول مرة-منذ زواجنا- لم تكن نعمي الجديدة معنا بالجسد…أصبحت تمكث في المكان الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد…وحلت نعمي الجديدة وهاهي كنتها راعوث تمسك بالقلم وتكتب عنها اقتداء بسيرتها العطرة….وحبا ووفاء وإخلاصا.