في 20 يناير 2012, عثر علي السفير الليبي السابق لدي فرنسا عمر بريبش مقتولا بعدما عذبه مقاتلون من مدينة الزنتان لارتباطاته بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي. وقد كانت تلك الحادثة هي الأخيرة فقط في سلسلة طويلة من أعمال العنف التعسفية التي نفذتها تلك الميليشيات المتشرذمة التي أطاحت بالقذافي. وعلي الرغم من أن هذا التقلب يهدد بتقويض الحكومة المؤقتة في البلاد إلا أن ##المجلس الوطني الانتقالي## ظل حتي الآن عاجزا وغير راغب في نزع سلاح هذه الميليشيات أو دمج صفوة مقاتليهم في ألوية الجيش الرسمية أو تسريح أولئك الراغبين في العودة إلي الحياة المدنية. وأفضل وصف للتوتر الناشئ بين السلطات المؤقتة والميليشيات هو أنه صراع بين ##المركز## الذي يسيطر علي المؤسسات الوطنية وتدفق النفط ومليارات من الأصول المجمدة من جهة, و##أطراف## مهمشة يمكن أن تتحدي شرعية المركز بلجوئها إلي العنف والاحتكام إلي الولاءات المحلية من جهة أخري.
وتنبع قوة الأطراف من الأحداث الفريدة للثورة التي استمرت ثمانية أشهر. فقد طردت شرق ليبيا (برقة) قوات القذافي بعد أيام معدودة فقط من بدء الاحتجاجات في منتصف فبراير, وسرعان ما برزت بنغازي كمركز سياسي للمتمردين. ويندرج القتال في غرب ليبيا (طرابلس الغرب) تحت فئة مختلفة. ففي المدن الرئيسية مثل مصراتة والزنتان والزاوية والزوراء وغريان طرد المتمردون المحليون في البداية القوات الموالية من مدنهم لكنهم وجدوا أنفسهم لاحقا محاصرين بقوات الحكومة علي أطراف مدنهم. وقد سقطت بعض هذه المدن بينما لم يسقط البعض الآخر. وبعد فرض منطقة حظر طيران بقيادة منظمة حلف شمال الأطلسي وبموافقة الأمم المتحدة تم إحباط محاولة القذافي استعادة شرق ليبيا في منتصف مارس, وكانت المعارك علي الطريق الساحلي الذي يربط بين أجدابيا وسرت غير وثيقة الصلة بشكل كبير بنجاح الثورة. كما أن المدن الكبري في طرابلس الغرب هي التي تحملت وطأة القتال الحقيقي مع دعم قليل من ##المجلس الوطني الانتقالي##. أما النجاحات اللاحقة مثل الاستيلاء علي طرابلس وقتل معمر القذافي وإلقاء القبض علي ابنه سيف الإسلام فقد تصدرت جميعها ميليشيات رجال طرابلس الغرب. ونتيجة لتضحياتهم وانتصارهم النهائي اعتبر هؤلاء المقاتلون أبطالا في مجتمع معروف تاريخيا بأنه لا يثق بالحكومات الرسمية.
غير أن المشاعر التي ولدتها انتفاضات 2011 ليست جديدة; فالأطراف القوية هي السمة المتكررة في التاريخ الليبي. فعلي مدي القرن التاسع عشر كان الوالي العثماني لطرابلس في وضع يجعله مضطرا إلي بسط سلطانه علي المناطق النائية في البلاد, لكنه لم يبذل قط نفوذا كبيرا في برقة. ومنذ نهاية فترة الاستعمار الإيطالي في عام 1943 فقد حكمت ليبيا في الواقع قطاعات مختلفة من الأطراف الليبية المتكونة من رجال قبائل غير حضريين وحضريين من خلفيات ريفية مما أعطي فرصة لصعود أطراف جديدة من المحرومين سابقا.
إن الإدارة العسكرية البريطانية (1943-1951) والنظام الملكي السنوسي المرتكز في برقة (1951-1969) ونظام معمر القذافي الثوري (1969-2010) قد استمدت جميعها الرتب العليا وذلك في المقام الأول من رجال قبائل ذوي خلفيات ريفية. واستمر نظام القذافي قائما حتي عام 2011 لأنه علي الرغم من تجنبه المتعمد بناء مؤسسات بيروقراطية مركزية إلا أنه كان من القوة بما يكفي لقمع توحد مراكز القوي المنافسة. وحتي في ذروة قوته كان علي القذافي أن يتعاطي مع الانتفاضات التي تحدث من آن لآخر في المناطق النائية. واليوم في ظل غيابه فإن الأعيان المحليين والتجمعات القبلية والميليشيات تتنافس جميعها لمنع ##المجلس الوطني الانتقالي## من بسط سلطته علي إقطاعياتهم لا سيما وأن ضعف ##المجلس## يتعقد بحقيقة أنه لم يرث مؤسسات وطنية وظيفية. ويشكل هذا الموقف الاختلاف الرئيسي بين ليبيا ما بعد الثورة وأنظمة ##الربيع العربي## المجاورة في تونس ومصر, وينظر إليه في هذا الضوء, ولذا فليس من المستغرب عدم تمكن ##المجلس الوطني الانتقالي## من جلب تلك الأطراف إلي الاصطفاف معه.
ورغم التحديات الداخلية التي يواجهها سيظل ##المجلس الوطني الانتقالي## هو الوجه السياسي والدولي لليبيا ما بعد القذافي. وقد أنشئ ##المجلس## لضمان التمثيل الجغرافي من مختلف المناطق في جميع أنحاء ليبيا ولذلك فقد تولي بشكل حاسم دور حكومة سيادية مؤقتة حيث يسيطر علي خزائن الدولة كما أنه يحظي باحتكار سياسة ليبيا الخارجية. ورغم أنه يواجه أطرافا مستاءة من تسليم السلطة والنفوذ المكتسبين أثناء ثورة الثمانية أشهر إلا أن ثمة تهديدا ضعيفا بأن هذه القوات سوف تلتحم لتقدم نفسها باعتبارها حكومة بديلة مترابطة. وفي الوقت نفسه فإن نجاح التمرد بقيادة موالين وعناصر من نظام القذافي السابق الساعي للاستيلاء علي مركز القوة هو أمر مستحيل.
غير أنه رغم عدم وجود بديل حيوي إلا أن قدرة ##المجلس الوطني الانتقالي## علي حكم ليبيا تعترضها ميليشيات إقليمية وأيديولوجية علي حد سواء. وتأتي أقوي الألوية من مصراتة والزنتان التي واجهت هجمات مدمرة من الموالين استمرت لمدة أشهر. وقد شكل التهديد الوجودي الذي واجهه هؤلاء المقاتلون روابط وغرس مهارات معارك كانت الوحدات الأخري تفتقر إليها. واليوم فإن ميليشيات من هاتين المدينتين منخرطة في صراع مفتوح علي السيادة في ليبيا. وقد تبادلوا إطلاق النار في الأول من فبراير في وسط طرابلس.
ولدي الميليشيات الأخري الأضعف نزعة إسلامية أيديولوجية كما أن لدي بعض القادة خبرة من القتال في أفغانستان والعراق لكنهم تخلوا عن توجههم الجهادي الدولي ليركزوا أكثر علي المستوي الوطني. ومن بين أكثر الوحدات الإسلامية بروزا, ##مجلس طرابلس العسكري## ولواء 17 فبراير من شرق ليبيا.
يجب علي ##المجلس الوطني الانتقالي## التركيز علي بناء المؤسسات وإيجاد صيغة عملية لدمج هذه الأطراف غير المركزية في داخل ليبيا الجديدة وتسخير طاقتها وشبابها لصالح الدولة. وقد قدر للميليشيات أن تشكل العمود الفقري لـ ##جيش ليبيا الوطني## الجديد الذي يوجد حاليا بالاسم فقط. ولدي ##المجلس الوطني الانتقالي## عدد من الأدوات الاقتصادية والسياسية تحت تصرفه لاستيعاب المقاتلين. فقد خصص ثمانية مليارات دولارات لـ ##هيئة شئون المحاربين## لإعادة دمج المحاربين في الحياة المدنية عن طريق عرض منح تدريبية ومساعدة في البحث عن وظائف ومنح قروض لمشروعات صغيرة ومساعدات مالية للزواج. ورغم أن ##المجلس الوطني الانتقالي## في وضع يؤهله ضمان مثل هذه البرامج إلا أنه يفتقر إلي القدرة الفنية لتنفيذها. وتحتاج واشنطن إلي العمل مع المنظمات الحكومية وغير الحكومية لعرض الخبرة اللازمة علي ##المجلس الوطني الانتقالي## لرعاية هذه المبادرات حتي تؤتي ثمارها المرجوة. وبالإضافة إلي ذلك ينبغي علي ##المجلس## الاعتماد علي شبكات الرعاية التقليدية التي ربطت المركز تاريخيا بالأطراف غير المركزية في ليبيا. وقد فعل ذلك ببراعة بترشيح عنصرين بارزين من مصراتة والزنتان لمنصبي وزير الداخلية والدفاع علي التوالي. ويستطيع ##المجلس الوطني الانتقالي## أيضا أن ينظر في نقل بعض السلطة إلي المجالس المدينة المنتخبة محليا وذلك للحد من الاستياء وتهدئة المخاوف من أن الحكومة المركزية الجديدة ستسعي لاحتكار السيطرة. ومع ذلك فإن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر ويجب تطبيقها بحذر لأنها يمكن أن تضعف ##المجلس الوطني الانتقالي## في نفس اللحظة التي يحاول فيها استعراض قوته. وعلي هذا النحو فإن الحاجة إلي مثل هذا التراجع قد أصبحت واضحة بشكل هائل من خلال الاضطرابات التي وقعت في أواخر يناير 2012 في بني وليد حيث تمرد السكان المحليون بعد الادعاء بأن مجلسهم المحلي لم يكن يمثلهم.
واختصارا فإن الطريق للأمام ضبابي, حيث يتساءل الكثير من أعضاء ##المجلس الوطني الانتقالي## والمجتمع الدولي عما إذا كان ينبغي للسلطات الانتقالية أن تتجنب اتخاذ سياسات قاطعة أم لا, لا سيما وأن الحكومات اللاحقة ربما تنظر إلي التشريع الجديد علي أنه يفتقد الشرعية التي ستملكها حكومات منتخبة. وثمة رؤية بديلة, أعني أن المركزية وبناء المؤسسات ودحر القوة المتأصلة في الأطراف غير المركزية والتي تمثلها ميليشيات هي أمور حتمية بالنسبة لليبيا. ولن تستطيع ليبيا تثبيت الأمن اللازم لإنعاش الاقتصاد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة إلا من خلال الإجراءات الفورية لمعالجة اختلالات التوازن الحالية بين المركز والأطراف.
كما أن القوي الخارجية في وضع جيد يمكنها من مساعدة ##المجلس الوطني الانتقالي## علي تعزيز قبضته علي ليبيا الجديدة, ولها مصالح خاصة في القيام بذلك. فقد تصدرت فرنسا حملة الإطاحة بالقذافي, وهي متحمسة للعمل مع ##المجلس الوطني الانتقالي## من أجل بناء مؤسسات دولة قوية. وإذا ما استقرت ليبيا فإن ذلك سيجتذب استثمارات خارجية ستساعد بدورها قطاع فرنسا التجاري علي تعويض النفقات العسكرية التي تكبدتها الحكومة في الإطاحة بالقذافي. كما أن الحاكم الاستعماري السابق لليبيا وهي إيطاليا مهتمة أيضا بضمان نجاح ##المجلس الوطني الانتقالي## واتباع سياسات داعمة لقطاع الأعمال. فهي أكبر شريك تجاري لليبيا وتستهلك نصيب الأسد من صادراتها النفطية. ومع ذلك فبخلاف فرنسا ودول غربية أخري ستعطي إيطاليا علي الأرجح أولوية لمصالحها التجارية ومعارضة الجهود الدولية الجماعية لتقوية ##المجلس الوطني الانتقالي## لو كانت تتعارض مع قدرة روما علي اقتطاع مكان خاص لشركاتها في ليبيا.
وقد أسست قوي عربية مثل قطر والإمارات العربية المتحدة نطاقات نفوذ في ليبيا الجديدة. فقد حثت قطر العالم العربي علي دعم التدخل العسكري, وقدمت للمتمردين في وقت لاحق مساعدات مالية وأسلحة. وعلي الرغم من أن القطريين قد ساعدوا ##المجلس الوطني الانتقالي## علي الإطاحة بالقذافي إلا أنهم لم يساعدوا ##المجلس## علي تأكيد سلطته. وقد مول القطريون الميليشيات الإسلامية التي تتحدي ##المجلس الوطني الانتقالي## من خلال مقاومة خطوات لاستمالة مقاتليها للانخراط في جيش مؤسسي.
ووسط هذا الارتباك, تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل الكثير لمساعدة ##المجلس الوطني الانتقالي## علي إدارة مرحلة الانتقال إلي ديموقراطية انتخابية. وباستطاعة واشنطن تقوية ##المجلس## في كفاحه لتسريح الميليشيات عن طريق جلب أعداد كبيرة من المقاتلين إلي الولايات المتحدة للحصول علي تدريب مهني. ولكي تقوم بذلك فإنها ستحتاج وبسرعة إلي استعادة نظامها لإصدار التأشيرات الذي كان موقوفا. كما أن فتح قنصلية في بنغازي يمكن أن يكون مفيدا أيضا.
ويبدو أن الولايات المتحدة و المجلس الوطني الانتقالي يعملان حاليا وفق مبدأ ##الأمن والشرعية أولا## الذي يعني أن المبادرات الجريئة لا يمكن أن تتم إلي ان يتحقق المزيد من الأمن وتتولي السلطة حكومة شرعية. لكننا نوصي هنا باتباع مسار مخالف, بتمسكنا بالفكرة بأن مجرد الانتظار للانتخابات في أواخر يونيو والاستقرار المستقبلي سيقوض النجاح المحتمل لكلا الهدفين. ويعد الإجراء الفوري ضد الميليشيات ضروريا قبل أن ترسخ هذه نفسها في النظام الاجتماعي الليبي. إن الأدوات الإبداعية مثل الدعاية المضادة للميليشيات والتعاطي مع الأجنحة السياسية للإسلاميين المعتدلين بدلا من الأجنحة العسكرية والتواصل مع ##الخاسرين## من الثورة جميعها خيارات ينبغي أن يستغلها ##المجلس الوطني الانتقالي## وأن ييسرها صناع السياسة الأمريكيون.
لقد ظل الشرق الأوسط لفترة طويلة نظاما مخترقا حيث كان العرب يلقون بلائمة التدخل في سياساتهم واقتصادياتهم الداخلية علي قوي خارجية لخدمة مصالح خارجية. وعلي النقيض من ذلك, فإن التدخل في ليبيا بقيادة منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 2011 هو مثال لافت علي قوي خارجية تساعد حركات داخلية ذات قيادة عربية. يجب علي المرء ألا ينسي أن التدخل قد حدث فقط لأنه قد دعي إليه أولا من قبل ##المجلس الوطني الانتقالي## ثم طالبت به جامعة الدول العربية ثم صادقت عليه الأمم المتحدة. ولذا فإن هذا التدخل وآثاره يمكن أن يؤسس سابقة جديدة للعناصر الدولية والأمريكية لدعم القوي الاجتماعية الأصيلة داخل العالم العربي والتخلي عن اعتماد الولايات المتحدة سابقا علي الطغاة في المنطقة. إن ليبيا المستقرة والديموقراطية التي تحكمها سيادة القانون لن تعزز الاستقرار في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا فحسب بل ستزيد أيضا من إنتاج النفط وتجعل من الصعب علي الشبكات الجهادية الاستحواذ علي شيء. والأكثر أهمية أنها سوف تبشر باتجاه جديد يمكن فيه تأمين المصالح الأمريكية من خلال دعم قوي شعبية داخل العالم العربي.
جيسون باك هو رئيس موقع Libya-Analysis.com, وعمل في طرابلس وواشنطن علي تعزيز العلاقات التجارية والدبلوماسية بين الولايات المتحدة وليبيا.
باراك بارفي هو زميل أبحاث في ##مؤسسة أمريكا الجديدة## يركز علي الشئون العربية والإسلامية. وقضي ستة أشهر في ليبيا خلال الثورة.
* نشرة معهد واشنطن