أرخي أجفاني وأحدق في قلبي فأسعد…وأري في قلبي أشجارا وثمارا…وملائكة ومصلين وأقمارا وشموسا…خضراء وصفراء…وأنهارا…وجواهر من ذهب…وكنوزا من ياقوت…ودفائن وتصاوير…كل في أعلي سمته عبارة من مسرحية مأساة الحلاج للشاعر صلاح عبد الصبور…وقعت عيناي عليها وأنا أستعد لسطر ما هو آت…كنت في أفضل حالاتي…كلل الأمل هامتي فانتصبت في فخر وانتصار…نعم إنه انتصار اليقين بيد الله التي تمتد في الوقت المناسب…بعدما تصورت أنه غلها عن البعض…وقرأت العبارة وشعرت أن أشجارا من الأمل طرحت أوراقها في قلبي وأضواء أنارته…بعدما أظلمه العجز طويلا…وحوطه اليأس مرارا…هل تتذكرون صفاء؟ تلك السيدة عثرة الحظ…إنه بطلة حلقةالبحر في عنق زجاجة…التي نشرناها منذ ثلاثة أسابيع…ابنة مدينة الإسكندرية التي عانت قدر ما عانت منذ صباها بعد أن صارت أرملة..وعادت إلي بيت والدها الذي وضعها في سجن ضاق صدرها به فهربت من قهر أبيها إلي زوج جديد…عاطل…ربيب السجون…لم تكن تعرف حقيقته لكنها علمت بعد فوات الأوان وعاشت راضية بما قسم الله لها…أنجبت منه ثلاثة أطفال…وعملت واجتهدت ثم استدانت بمبالغ ضخمة…وحل موعد السداد فإما الدفع أو السجن…لم يكن لصفاء مطلب سوي دفع الجزء الأول من الدين…عشرون ألف جنيه…وماكينةأوفر لتبدأ عملا جديدا…واصلت معنا…طرحت شكواها أمامنا راجية المساعدة…وذكرت لنا أن الأب رويس مرقس وكيل البطريركية بالإسكندرية لم يهتم بمساعدتها بينما ذكرت أبا آخر لم يعطها حلا بذكر اسمه وقالت إنه ساعدها كثيرا. بعدما تركت صفاء حاولت قبل عرض مشكلتها الاتصال بالقمص رويس لكنني فشلت فما بين انشغالاته وانشغالاتي ذهب الوقت وتم النشر دون الرجوع إليه.
بعد نشر قصة صفاء لم يأت الصدي المرجو…والسيدة تنتظر والأيام تمر…مرارا اتصلت بي لتطمئن علي مصيرها…وهل من مساعد تقدم للأخذ بيدها في مأزقها أم عليها الاستعداد لغياهب السجون؟…كنت في كل مرة أرد علي اتصالها وأنا أؤكد لها أن الله لن يتركها لكن ليس في يدنا سوي الانتظار..كان بقلبي دائما يقين أن الأقدار ستلعب دورا في مأساتها فما من ظلم دام….وما من ضيقة واستمرت إلي المنتهي…وفي صباح أحد الأيام حدثتني صفاء قائلة:إحنا في موسم…النهاردة قادرة ألاقي الأكل لولادي بكره مش هلاقي, الصيف هايخلص ومش هاقدر أشتغل في سمسرة شقق المصيف…عيالي هاياكلو منين؟ولو اتسجنت مين يرعاهم؟ ده أصغرهم عمره سنتين…أرجوكي اتصرفي مافيش قدامي باب مفتوح غيرك…..
عدت مجددا للإحساس بالعجز…سقطت صخرة الضيق فوق صدري خاصة بعدما أرسلت لي صورة لأبنائها الأربعة ينامون فوق الأرض…تحوطهمالكراتينخوفا من الرطوبة…أنهيت حواري معها وطلبت أبانا رويس…لم يرد…أرسلت له رسالة أعرفه بشخصي وأرجو منه الرد علي…بعد أقل من ساعة اتصل الأب رويس بي بهدوء ومحبة عاتبني قائلا:لم لم ترسلي لي رسالة من قبل…لما لم تعلميني قبل النشر؟ لما أر صفاء ولم أعرفها ولكنني أعدك بمتابعة الأمر كله…تركني ساعة أخري ثم عاد لي ليقول:حالة صفاء معروفة للكنيسة وساعدناها بمبالغ ضخمة عن طريق أحد الآباء الذي رفض ذكر اسمه… وسنسدد عنها المبلغ المطلوب…طمئنيها الكنيسة لا تفرط في أبنائها.
فرحت جدا وتبدد إحساسي بالعجز…تتفتت الصخرة الجاسمة علي أنفاسي…وقلت لأبي رويس أعلم تماما ما تفعله الكنيسة لأجل أبنائها…وأعلم إنكم قدمتم يد العون لصفاء وأسرتها لأنها ليست فقط مجرد امرأة استدانت من الآخرين بلا حكمة فوضعت نفسها في ورطة- لأن كثيرين يفعلون ذلك ولا يجب أن تتحمل الكنيسة السداد عنهم علي حساب قوت الفقراء المحتاجين- ولكن الكنيسة تبنت هذه الحالة لأن صفاء وزوجها وأحد أبنائها يعانون من عدة أمراض خطيرة وليس لهم الآن أي باب رزق…في محبة وورع قال الأب رويس:بلغيها لن نتركها…أما ماكينة الأوفر..قاطعته معتذرة وقلت:ماكينة الأوفر علي باب افتح قلبك يا أبوناأطلق ضحكة رضا لي:ربنا يعوضكم تعب المحبة.
لم أكن أعلم حتي أنهيت مكالمتي مع أبانا روس من أين لي بثمن الماكينة الأوفر, فالمبالغ التي وردت باسم صفاء لن تغطي ثمن الماكينة…لكن كان يقيني أن الله سيمد يده في الوقت المناسب كما اعتدنا في باب افتح قلبك…في هذا اليوم تجلي عمل الله مع صفاء بشكل لم أكن أتوقعه…لم تمر ثلاث ساعات إلا ودق جرس هاتفي الذي كنت أنوي عدم الرد عليه لكتابة هذه السطور والتركيز فيها…ويا للغرابة أمسكت الهاتف لأرد ثم وضعته علي المكتب مرة أخري وقلتبعدين مش وقته…ثم أطال الدق فأمسكته مرة أخري وقمت بالرد…فإذا بسيدة تعرفني بنفسها من سكان مصر الجديدة…قالت:لا أعرف من أين أبدأ لكن قصة صفاء أثرت في نفسي فهل لي أن أتحمل ثمن الماكينة الأوفر….لأنني لن أستطيع تحمل العشرين ألف جنيه…لابد أن نساعدها وأن نمنع عنها السجن وعن أولادها التشريد… قبل أن تكمل حديثها استوقفتها ورويت عليها ما حدث قبل ثلاث ساعات وكيف يفرج الله ضيقات بنيه ففي ساعات أوفي دين صفاء وأرسلك لنشتري لها الماكينة…فرحت السيدة جدا وقالت سيصلكم المبلغ خلال يومين.
أطلقت عيناي للسماء أتأمل كم هو رائع أن نحيا بالأمل…وكم هي عظيمة أعمال الله..وكم هي قوية يداه الممتدتان حينما ترفعنا من ذل التجارب ونيرانها إلي راحة الانفراجة والكرامة…وتذكرت الإصرار الذي لمحته في عيني صفاء حينما التقيت بها…ذاك الإصرار الذي دفعها لتغيير حياتها سابقا ويدفعها الآن للخروج من عنق الزجاجة فارتمت في أحضان الكنيسة مجددا بعدما ابتعدت طويلا حسبما روت لي…
تعليقات القراء
وصل الباب تعليق من أحد القراء يطلب نشره ورفض ذكر اسمه…حول قصة الأختين اللتين نشرنا عنهما العدد قبل الماضي متسائلا: إحداهما دخلها 140 جنيها ومريضة وزوجها معاق ولديها ثلاثة أولاد…والأخري سليمة وزوجها سليم وراتبه 800 جنيه ولديها أيضا ثلاثة أولاد…فلماذا لم تساعد السليمة المريضة؟ لماذا لم تكفلها ولو بعض الشئ؟ وكيف تجرؤ الأخت التي تقول إنها تعيش مستورة أن تطلب سيارة لابنها العاجز فيما تتلوي أختها الكبري من المرض والعوز والفقر…إني أتعجب من تلك الحال…ومندهش من تعليقك- المحررة- علي القصة إذ أنك لم تذكري من قريب أو بعيد كفالة السليمة للمريضة. كما أنك طلبت منهما التسلح بالإيمان فأي إيمان تقصدين في ظل 140 جنيها شهريا؟
رد المحررة:
سعدت جدا بهذا التعليق وكنت أود نشر اسم القارئ الذي اتصل بي راجيا نشر رده لكنه رفض نشر اسمه…وتعليقه هذا بادرة لتلقي تعليقات القراء حول ما ينشره الباب من مشكلات قدر ما تتسع المساحة لها…أما عن ردي: عزيزي لك كل الحق…لم أذكر كفالة الأخت السليمة لشقيقتها المريضة لكن هذا سقط سهوا فقط…فإنها بالفعل تقوم بمساعدتها…أما عن التسلح بالإيمان فإنه سلاح لا يتنافي أبدا مع الجد والاجتهاد والعمل والبحث عمن يساعد في سد الاحتياج..ولا يعني ما ذكرته عن إيمان الراهب الذي حرك القلاية معه أن الإيمان فقط هو الحل…لأن هذا ضد أي تعليم كتابي تلقيناه..فدائما الإيمان تحمله الأعمال…وإلا لعاش الناس في الأديرة رهبانا لا يعملون ولا يسعون…ولكن ما قصدت الإشارة إليه وربما خانني التعبير حينها…أن الإيمان مع السعي الدؤوب ينتج سلاما في النفس بالإضافة إلي نتائج هذا السعي….فبعض الناس ينتابهم اليأس فتنهار حياتهم وتتعرض للدمار النفسي حال تعرضهم لأزمات مالية حرجة مثل التي نحن بصددها…خاصة عندما يقترن الفقر بالمرض…تضيق النفس وتضجر…فما جدوي أن نسلم أنفسنا للضجر بعدما أسلمتهم الأقدار للفقر والمرض؟…إذا فعلنا ذلك فنحن نضع المسمار الأخير في نعش السلام النفسي…فلا نحن وصلنا للانفراجة ولا صمدنا حتي تأتينا وهدا هو ماوددت التنويه إليه وهو الاحتفاظ بالإيمان والسلام النفسي والثقة في غد أفضل لحين الانفراجة ذاك الإيمان وتلك الثقة يحفظان للنفس توازنها وقدرتها علي التفكير السليم لحل المشكلات…وهذا هو ما سقط مني ذكره في قصة إيمان قلاية…فشكرا للقارئ العزيز…وفي انتظار تعليقات قراء آخرين.