ما أروع التجارب القاسية إذا كنت أنت السند…وما أحلي الألم إذا كنت أنت المكافأة…وما أطيب أشواك الأحباء الخائنين إذا أهدتنا الأيام كنز الوفاء…فأنت البدء والمنتهي يا إلهي وليس لنا سواك…كلمات خطها قلمي علي أثر ما عاصرته أمام عيني فوق سلم الجريدة منذ أيام.
إنها سيدة في الأربعين من عمرها…صعدت السلم علي أقدامها حتي الدور الخامس…لأن المصعد معطل…ومقصدها كله الدور الثامن…توقفت قبل الوصول بثلاثة أدوار…أمسكت بصدرها أنفاسها تضيق…تطلق استغاثة للزملاء والعابرين صعودا ونزولا ليحملونها علي أياديهم…وما أن وصلوا إلي الدور الثاني…أمام مقر جريدينا…حتي شعروا بثقل شديد في جسمها فوقعت من علي أياديهم مفرودة الجسد علي السلم النساء تصرخن…الرجال يمنعون المرور…
أسرعت لأقدم أي شئ متصورة أنه مغشيا عليها…ومع الأخرين حاولت إيقاظها آملين أن أنفاسها مازالت نابضة…وصلت الإسعاف ورفضت حملها قالوا لنا:ماتت…مافيش نبض…الله يرحمها ذهل الجميع…دموع…آهات تسمرت عيناي علي وجهها وهيئتها امرأة يبدو الشقاء علي وجهها وملابسها الرثة يبدو الأسي علي مظهرها…ترقد ممددة الجسد بلا مقدمات…بلا مرض سابق بلا أي ضامن للمستقبل…تعمل موظفة…لديها ثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة…زوجها موظف بعمل حكومي…بهذه السرعة رحلت رغم أنها لم تكن مريضة ولم تشك بأي شكوي سوي ضيق ذات اليد والفقر الذي كان يطل من وجهها الصامت الراقد المائت…إنها الحياة…إنه الموت الحقيقة الوحيدة في الكون…
كانت تقف إلي جواري امرأة جاءت تشكو خيانة زوجها…وعندما انطلقا إلي سلم الجريدة لأتابع ما يحدث انطلقت خلفي…نظرت إليها وبكينا سويا…ومن الموت ولد الغفران عفت المرأة عن زوجها…وقالتربنا يكفينا شر غفلات الزمن…ربنا يهدينا جميعا ويغفر لنا جميعا.
هكذا خلق الموت عفوا…وأفرزت التجربة القاسية حلاوة…لنشعر بحنو يد الله علينا حتي في عمق قسوة الألم ونختبر أن هناك مفاجآت في حياتنا قد نكون غير مستعدين لها فلايعرضنا الله لإياها…العجيب أن الفقر والفساد دائما ما يجتمعان متلازمان والسيدة الفقيدة ظلت لمدة عام تصعد ثمانية أدوار علي أقدامها كل صباح- مقر عملها- لأن الشركة المسئولة عن الصيانة رفضت إصلاح المصعد وانصاع الموظفون -لاحول لهم ولا قوة- لهذا التعنت غير المبرر صاعدون..هابفوق ثمانية أدوار علي أقدامهم يوميا…من أجل لقمة العيش أنهم موظفو البيت الفن للمسرح.