مصر أم الفنون… كنز الأسرار ومنبع الجمال علي مر العصور, لم يقف جمالها عند صورة أو منظر أو مكان فلم يكن الفن نوعية واحدة, بل وضع الفنان بصمته الحضارية علي أدوات حياته اليومية سواء استهلاكية أم فنية فكان الفن هو الشبع الحقيقي لاحتياجات الإنسان والمعبر عن رغباته…
وكما كانت مصر مطمعا للمستعمرين كانت دائما محط أنظار الفنانين الذين وجدوا في مصر شبعا لشوقهم ونبعا لإلهامهم.
تلألأت مصر في أعمال كثير من الفنانين الأجانب الغربيين وبعض الشرقيين أيضا وخاصة مع قدوم الحملة الفرنسية لمصر والتي اصطحبت معها لجنة للعلوم والفنون مؤلفة من 167 عضوا من المهندسين والفنانين والمعماريين وغيرهم وكان الهدف الأساسي من وجودهم هو ارتياد كل جانب من جوانب هذا البلد الأسطوري الذي لا يعرف عنه إلا القليل, تاريخه, وآثاره وفنونه… حتي أن علم الآثار المصرية ولد مع مجيء الحملة الفرنسية علي مصر… وقد صور رساموها جوانب متعددة من الحياة اليومية بالأساليب التسجيلية والتأثيرية والانطباعية.
ورغم أن فناني الحملة الفرنسية لم يكونوا في أسلوبهم الدقيق وقدراتهم العالية بعيدين عن عصر النهضة بما تميز به من المبالغة الشديدة في التفاصيل والمثالية الزائدة في تجميل الأشكال حتي لو بدت مغايرة للواقع وخيالية
والقواعد الصارمة التي لا تنكسر… إلا أن من حسن حظ مصر أن هؤلاء الفنانين جاءوا إلي مصر بعد الثورة الفرنسية مؤمنين ومتأثرين بمبادئها التي أحدثت تحولا في الحياة الثقافية والفنية لذلك ابتعدوا في أساليبهم عن الأساليب الكلاسيكية القديمة في تكلفها ومبالغتها والإسراف في تجميل الواقع.
وكان مبدئهم كما أوجزه جوستاف كوربيه Courbet هو أن التصوير يجب أن يقتصر علي تمثيل الحقيقة والأشياء المألوفة والواقعية لتعبر عن أفكار وتصورات العصر الذي نعيشه.
وقد ذكر كريستوفر هيرولد مؤلف كتاب بونابرت في مصر في معرض كتابه ما يعبر عن دقة هؤلاء الفنانين قائلا… ##… وأفردوا لجماعة منهم هم المصورون لكل شيء…. منهم أريجو المصور, وهو يصور صور الآدميين تصويرا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسم يكاد ينطق حتي أنه صور المشايخ كل واحد علي حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان…##.
وأكثر ما يلفت الانتباه في أعمال فناني الحملة الفرنسية اهتمامهم الشديد بالإضاءة في العمل خصوصا مع انبهارهم بشمس مصر المتوهجة الشديدة والتي تنعكس علي سخونة الألوان الزاهية في أعمالهم فعمد الكثير منهم لإضافة ومضات ضوئية شديدة من اللون الأصفر ومعه الأحمر أحيانا في الخلفيات وجدران المباني والسماء وكأن للألوان الساخنة دور البطولة في الإيحاء بالدفء المميز للبلاد.. وكانت الإضاءة هي أبرز سمات أعمالهم لما تلعبه من دور هام في تحقيق الغايات الفنية فهي تساعد علي تحقيق السيادة لعناصر الموضوع الفني وكذلك تحقيق التوازن والتأثير الدرامي بين عناصر بناء العمل والموضوع الفني وتحقيق الإحساس بالعمق.
أما تعبيرهم عن الشكل الفني Artistic form فكان نابعا من ديناميكية الحركة الداخلية في الأشكال في شتي أرجاء اللوحة.. وكذلك التجاوب الإيقاعي بين عناصر الصورة وأماكنهم وتحركهم بامتداد سطح الصورة فيحدث الإحساس بالحركة والتوتر الجميل.
وارتفعت قيمة أعمالهم الفنية بتنظيمهم عناصر العمل في بناء تصويري تعبيري يتضمن الخط والمساحة والكتلة واللون في تحكم فريد جعل العمل الفني نظاما عاما يتعامل مع عناصره كأنظمة تشكيلية تموج بالحركة بداخلها وخارجها.
ويرجع السحر الكامن في هذه الأعمال إلي المهارة غير العادية والثقة الواضحة في عملية التنفيذ إذ تستخدم الريشة أو القلم برشاقة عالية.
وهناك مميزات خاصة بالخط في تأثيره وتعبيره والرسوم تختلف في هدفها وإن توحد الهدف العام في الوصف فهي تتنوع من لحظة القبض السريع علي أحد جوانب الحياة في نوع من التوهج الفجائي للرؤية إلي الدراسة المدققة النفاذة لبعض التفاصيل.. إلا أن هذه الأنواع المختلفة من الرسم تتمتع بتركيز معين في الرؤية مشترك فيما بينها فالفنان والمتفرج بدوره ينظران إلي شيء واحد في لحظة واحدة, فمعظم الصور تتضمن قليلا من تشتت الانتباه ناتج من زخم العناصر في اللوحة كما أن هناك رسوما معقدة لكونها تحقيقا كاملا لقطاع من الحياة.
وأعجب ما في الأمر والذي يحسب لروعة وجمال هذا البلد الجميل المدهش مصر أن أغلب الأعضاء في لجنة الفنون المصاحبة للحملة الفرنسية والذين تطوعوا للقيام بمهمة الوصف والنقل في أعمال فنية رائعة بشغف لم يكونوا رسامين بل كانوا من المهندسين والمعماريين ومهندسي الكباري والجغرافيين أمثال: يلزاك وسيسيل وشابرول وديفيلييه وجولوا وجومار ولوبير وسان جنيي وغيرهم…
فكان هذا تطويعا لدقة العمل والمقاييس مع تفجير طاقات إبداعية وهذا اتضح في روعة الأعمال وكذلك أسلوب المقارنات الذي انتهج في كثير من الأعمال بين المنظر المراد تصويره وبعض الخيول الخاصة بهؤلاء المهندسين الفنانين لتوضيح الحجم الفعلي للمنظر والخلفية واستخدام الأشجار والنخيل في خلفيات أغلب المناظر لتكملة الوصف الدقيق لمقياس الرسم وحجوم الأشياء مما يوحي للعمل بأنه يستمع إلي وصف وتعليق دقيق مصاحبا لانبهار عينه بالمشهد الأساسي للوحة والأسلوب البانورامي لأغلب اللوحات التي عبر فيها الفنانون عن العمق والمنظور الهندسي والفراغي بأسلوب مبالغ فيه بشدة مما أعطي طباعا بانوراميا لأغلب الأعمال فيشعر المشاهد للعمل أنه ينجذب بشكل لا إرادي ليدخل بداخل اللوحة وكأنه جزء منها خصوصا مع إكثار هؤلاء العباقرة البارعين من الخطوط والتفاصيل في كل العناصر المكونة للعمل مما يوحي للعين بأنها أكبر مما هي عليه متضخمة لتلتف حول المشاهد الذي يسافر بعينه في هذا السحر يتجول يمينا ويسارا.
وعلي الرغم من أن الهدف الأساسي من عمل لجنة العلوم والفنون المصاحبة للعمل كان الوصف والنقل الدقيق لكل جوانب هذا البلد الساحر ليتمكن من لم يزره من معرفة دقيقة وتحقيق هذا الهدف نسبيا من خلال آلاف اللوحات والرسوم التوضيحية إلا أنها لم تكف لسد لهفة وشغف الغربيين الآخرين بل زادتهم شوقا للتمتع بسحر هذا البلد مصر … ومن أهم هؤلاء الذين أنتجوا روائع الأعمال التي تعكس جوانب الحياة في مصر في القرنين التاسع عشر وحتي بدايات القرن العشرين الفنان العبقري جاك ليون (1824-1904) الذي أنتج عشرات الأعمال عن الحياة في مصر والفنان النمساوي رودلف سفوبودا الذي صور الطقوس الدينية في لوحات دقيقة مبهرة والفرنسي آلان ليزنز وغيرهم…
أما في العصر الحديث والمعاصر وعلي الرغم من أن وسائل الاتصال الحديثة ووسائل نقل المعلومات والأخبار الحديثة وخصوصا الكاميرا والسينما تجعلان المشاهد الغريب عن مصر أكثر تعودا علي الملامح الخارجية لحضارتها إلا أن روح هذه الحضارة لا تزال تبدو غريبة وبعيدة عنه ولكنها ساحرة كأرض للعجائب والألغاز تحمل مزيدا من الأسرار في كنوزها الأثرية وسر التحنيط والنسيج الغريب المترابط لمواطنيها وعاداتهم ومشقة الحياة المصحوبة بالصبر العجيب.. وهذا ما جعل الفنان الروسي فيكتور كوبيليف يكرس حياته من أجل ترجمة جمال وسحر مصر للروسيين خلال أعماله التي عبر فيها عن عظمةوشموخ الأهرامات والنيل ومياهه الغزيرة وخان الخليلي المزدحم بالناس وألسنة اللهب في أفران الصهرفي حلوان والتحف العملاقة من إبداع المعماريين القدماء والرمال المحاذية للسماء عند الأفق…