اليوم تنطلق حملة تمرد حيث ينزل المصريون إلي الشارع معبرين عن غضبهم واحتجاجهم ورفضهم الأوضاع التي وصلت إليها البلاد بعد عام من حكم الرئيس محمد مرسي… عام شهد أكبر وأخطر انقسام وطني في تاريخ مصر
اليوم تنطلق حملة تمرد حيث ينزل المصريون إلي الشارع معبرين عن غضبهم واحتجاجهم ورفضهم الأوضاع التي وصلت إليها البلاد بعد عام من حكم الرئيس محمد مرسي… عام شهد أكبر وأخطر انقسام وطني في تاريخ مصر الحديث, فبدلا من سعي الرئيس المنتخب إلي لم شمل شعبه وخلق توافق سياسي بين التيارات المتنافسة نجح بشكل ملفت في الانحياز إلي جماعته وعشيرته والأقربين له من أنصار الإسلام السياسي وأمعن في إقصاء -أو غض البصر عن إقصاء- سائر أطياف الخريطة السياسية, في مشهد أعاد فيه إنتاج دور الحزب الوطني الديموقراطي ورئيسه حسني مبارك حين استمتع بالهيمنة علي الحكم وأزاح من طريقه باقي أعضاء التعددية الحزبية السياسية المزعومة.
عام شهد تردي أوضاع مصر السياسية والأمنية والاقتصادية بدرجة كارثية يصعب معها تصور كيفية الإصلاح ومداه الزمني… عام شهد هجمات شرسة علي أهم ركائز الدولة رسوخا واحتراما باستباحة التعدي علي السلطة القضائية ومحاولة تصفية حسابات الإسلام السياسي معها بعقابها وتقليم أظافرها… عام شهد اجتياح إعصار الإخوان المسلمين لجميع مفاصل ومناصب الدولة لإحكام قبضتهم عليها تحسبا لاحتمالات تهديد سلطاتهم وتحصينا ضد مزاحمتهم من أي تيار آخر وتأمينا لاستمرار مكوثهم في الحكم… وأخيرا عام شهد في نهايته جموحا مجنونا لمؤسسة الرئاسة في تعديلاتها الوزارية التي فجرت براكين الغضب في أوساط الإعلام والثقافة, ثم تعديلات المحافظين التي جاءت بمثابة إعصار تسونامي قلب الأوضاع رأسا علي عقب وفجر ثورات في ثلث محافظات مصر, كما امتدت تأثيراتها المدمرة إلي دول العالم التي باتت متوجسة متحسبة إزاء ما يحدث في مصر محذرة رعاياها من القدوم إلينا.
وكان مسك الختام في جموح مؤسسة الرئاسة سياستها الخارجية التي افتقرت إلي كل عقل وخبرة في تعاملها مع أزمة سد النهضة الإثيوبي ومن بعده الأزمة السورية حيث انزلقت نحو تصريحات وقرارات كارثية غير مسئولة -أقل ما توصف به أنها مراهقة سياسية- كما حاولت تجميل رعونتها السياسية بحشد جحافل أنصارها في مظاهرات تأييد ضحلة مفضوحة أقل ما توصف به أنها عمقت بشكل خطير الهوة التي تفصل بين المصريين وتضعهم في مواجهة بين بعضهم البعض… مواجهة بدأت بوادرها الأسبوع الماضي في حشود أنصار ومؤيدي محمد مرسي, ونشهد فصلها الثاني اليوم في حشود رافضي ومعارضي حكمه.
سبق أن كتبت معبرا عن كامل تفهمي لبواعث حركة تمرد التي تنزل إلي الشارع اليوم مطالبة برحيل محمد مرسي أو دعوته لانتخابات رئاسية مبكرة, وأستمر أرقب باهتمام وقلق إصرار الأصوات الصادرة عن الحركة علي عدم مغادرة المتمردين أماكن احتشادهم إلا بعد انصياع محمد مرسي لمطالبهم -في مشهد يعيد إنتاج سيناريو ثورة 25 يناير 2011 حين استمرت الحشود في ميدان التحرير تهتف مش هانمشي… هو يمشي حتي جاء يوم رحيل مبارك في 11 فبراير وهتف الجميع فرحا بنجاح الثورة غير مدركين أن مؤامرة اختطافها كانت قد بدأت بالفعل- فهل أعد قادة حركة تمرد خططهم السياسية لتحقيق أهدافهم؟… هل لديهم سيناريوهات بديلة يتحركون نحوها لإدراك تلك الأهداف؟.
أقول ذلك لأن العمل الثوري الذي تفجره شحنة الغضب ومخزون الاحتجاج لا غني له عن البصيرة السياسية التي تتدبر كل الاحتمالات وترسم السبل البديلة التي تمكن من تحقيق الهدف… فلا خلاف علي أن تمرد تكون نجحت نجاحا مبهرا إذا تمكنت من زحزحة رئيس الجمهورية عن عناده وقام بتلبية مطلبها في الانتخابات المبكرة, لكن ماذا لم لو يفعل؟.. ماذا لو امتد الأمر بحشود المصريين المتمردين أياما تلو أيام وأسبوعا تلو أسبوع والمواجهة مستعرة بينهم وبين الرئيس -ناهيك عن احتمالات أن تكون المواجهة بين المتمردين وبين أنصار الرئيس وهنا أقشعر حين أتصور أن يستعر العنف لتتحول تلك المواجهة إلي معركة دموية تدخل مصر في حرب أهلية رهيبة بين أبنائها وبعضهم البعض.
أعود فأقول إن حملة تمرد ولدت من رحم الغضب والقهر لتبقي, ولا أتصور أن يتم وأدها لمجرد غياب رؤية سياسية بعيدة المدي تحول هذا المخزون الهائل للاحتجاج من إعصار عاطفي هادر إلي قوة دفع منضبطة قادرة علي تعديل مسارها لتحقيق هدفها… فما لا يتم إدراكه بالتظاهر السلمي والاعتصام في الشارع يجب العمل علي إدراكه من خلال صندوق الانتخاب… وإذا كان رئيس الجمهورية سيتمسك بالشرعية وبعدم مشروعية الانتخابات المبكرة -برغم رفض غالبية شعبه له- فتظل هناك موقعة مرتقبة يمكن الإعداد الحكيم الجيد لها واستثمار رصيد الحشد الذي حققته حركة تمرد من أجلها… إنها انتخابات مجلس النواب المقبلة, وأتصور أن ذلك المجلس سيكون العمود الفقري للساحة السياسية المصرية في الفترة المتبقية لرئاسة محمد مرسي -إذا قدر له أن يستمر رئيسا للجمهورية- لأن مجلس النواب برحيل مجلس الشوري وإلي أن يأتي مجلس شوري جديد سيكون هو أداة التشريع والرقابة البرلمانية, وإذا حصدت التيارات المدنية الوسطية الليبرالية أغلبية مقاعده واستطاعت توحيد صفوفها وحشد أنصارها -وعلي رأسهم قوة دفع حركة تمرد- أمام صندوق الانتخاب ستكون بذلك حققت انتصارا سياسيا مدويا بتحجيم هيمنة تيارات الإسلام السياسي, وتقليم أظافر رئيس الجمهورية -حتي إن بقي في موقعه- وإعادة التوازن والانضباط إلي أجندة التشريع والحكم وكبح جماح الإخوان في الاستيلاء علي مفاصل الدولة.
هذا السيناريو ليس مستحيلا وهو التحول السياسي العاقل لمخزون الغضب الذي فجر حركة تمرد… فقط علينا العمل والعمل الجاد لإنجاحه… وأولي الخطوات ألا نستدرج في معارك جانبية تبعدنا عنه, فعلينا أن نوجه قوة الدفع نحو الضغط لسرعة إصدار قانون مباشرة الحقوق السياسية -المعروف بقانون الانتخابات- في شكله النهائي العادل المتوازن الذي توافق عليه المحكمة الدستورية العليا, ثم علينا أن نضغط من أجل تحديد موعد بدء فتح الباب لترشيحات مجلس النواب -فردي وقوائم- وهنا ينتظرنا عمل جاد ومهم في الاحتشاد وراء مرشحين محددين لعدم التشرذم وبعثرة الأصوات, ثم علينا أن نضغط -ونضغط جدا- من أجل بسط الإشراف المباشر الصارم من السلطة القضائية علي جميع اللجان الانتخابية -ولنا في ذلك عبرة مريرة مما حدث في الاستفتاء علي الدستور في ظل مقاطعة السلطة القضائية الإشراف عليه- وأخيرا وكما يقولون يأتي مربط الفرس والذي بدونه يفشل وينهار كل ما سبق… إنه العمل بكل إصرار وشراسة علي إرسال ما لا يقل عن ستين في المائة من القوي التصويتية إلي صناديق الانتخاب, فبدون هذه النسبة لا يمكن ضمان عدم العبث بنزاهة العملية الانتخابية, وأنا أقول ذلك ردا علي دعاة الانكسار وهواة الهزيمة الذين لا يلبثون أن يصيحوا: ولكنهم احترفوا تزوير الانتخابات… لا فائدة من الاحتكام للصناديق… أقول لهم في ظل قانون عادل وإشراف قضائي ورقابة محلية ودولية وحضور تصويتي لا يقل عن ثلثي الناخبين تكاد تنعدم حيل وأساليب تزييف إرادة الناخبين -ولنا في الانتخابات الإيرانية الأخيرة التي جاءت بالتيار المعتدل أسوة حسنة.
إننا نستطيع بالحكمة والبصيرة السياسية أن نستعيد مصرنا من الذين اختطفوها… هل نفعلها؟