في ليلة السادس من أكتوبر عام 1973 نامت مصر وأهلها علي نفس الحال الحزين القلق الذي لم تعرف غيره منذ هزيمة يونيو الساحقة عام 1967 العدو رابض علي جزء ضخم من أرض الوطن, وقابض بيد من حديد علي عنق قناة السويس, ومدافعه موجهة غربي القناة, وجنوده متحصنون في خط دفاعي قيل يومها إنه لا توجد علي سطح الأرض قوة تستطيع أن تقهره أو تنال منه, وقادة العدو هناك في تل أبيب والقدس يخططون ويعتقدون أن قوة مصر تحطمت إلي الأبد, وأن الوطن العربي أصبح بين أيديهم, وكأنه كعكة لينة يقتطع منها ما يريد وقتما يريد, ومن وراء العدو الإسرائيلي وقفت أمريكا بقوتها العسكرية الهائلة, ترسل إليه الشحنة بعد الأخري من أسلحة رهيبة لم يسبق استخدامها في فيتنام, بما في ذلك القنبلة التليفزيونية وصاروخ T.O.W المضاد للدبابات وصواريخ وول- آي ومافريك وستاندارد وشرايك وكان الأمريكان يظنون أن لا أحد يستطيع أن يقف أمامها, ولهذا اعتبرت إسرائيل نفسها أنها القوة الوحيدة الجديرة بالذكر في الشرق الأوسط, وأنهم وحدهم سادة المنطقة الفعليين, ولا يمكن أن يجري فيها شيء إلا بإذنهم وما يوافق مصالحهم.
وقال الكاتب الإسرائيلي ##ولتر لاكير## – بعد تحقيق النصر: ##كانت إسرائيل تعتقد أنها القوة العسكرية الوحيدة فيما بين الهند وفرنسا##.
واعتقد العالم أن قضية الشرق الأوسط قضية منتهية برغم الضجيج الكثير الذي يثيره المصريون, فهو ضجيج شعب مغلوب لا يريد أن يواجه الحقيقة أو يحاول تغيير ما حدث وسيخفت يوما هذا الصوت, ثم يقبلون رافعين راية الاستسلام فيوقعون الشروط التي يمليها المنتصر, وفي هذا المعني قال موشي ديان- وكان إذ ذاك في أوج مجده الزائف بعد حرب يونيو عام 1967: ##إنها الحرب التي أنهت كل الحروب ولم يبق أمام العرب إلا طلب المقابلة لتقديم فروض الطاعة, ولاسيما أنها يعرفون رقم التليفون والعنوان: 21 شارع كابلان, القدس!! وهذه واحدة من كلماته السخارة اللاذعة التي كان مولعا بإلقائها, أيضا: ##إن مصر لن تحارب قبل عشر سنوات, إذا فكرت فعلا في الحرب !!## , وهو نفسه الذي قال ساخرا : ##إن الجبهة المصرية لا تستحق من جهد الجيش الإسرائيلي أكثر من 60 دقيقة فقط !!…
وقال بارليف المهندس الإسرائيلي صاحب فكرة خط بارليف لوكالة الأنباء الفرنسية في يوم 5 فبراير عام 1971: ##ليست لدي المصريين أدني فرصة للنجاح إذا حاولوا عبور القناة ومن المؤكد أن لديهم الوسائل اللازمة لمثل هذه المهمة, ولديهم خطط العمل. ولكن ما ينقص مصر الجيش الذي يستطيع أن يخطط وينفذ ويقاتل…##, وقال أيضا في يوم 8 مارس عام 1972: ##إذا استأنفت مصر القتال, فإن إسرائيل لن تخسر موقعا واحدا## , وكان اليعازر رئيس أركان ديان يتبا هي باليد الطويلة التي تستطيع أن تمتد في لحظات إلي أي موقع في الأرض العربية, ثم تتحول إلي قبضة قوية تضرب بلا رحمة! , أما جولدا مائير فكانت تتساءل : ## إذا كان أنور السادات عاجزا عن الحرب , وإذا كان يعلم تماما أن الهزيمة الساحقة المتكررة هي النتيجة المحتومة .. فلماذا لا يقبل المفاوضة مع إسرائيل ؟ وكانت تقصد الاستسلام## , ويتبادل بسخرية أبا أيبان في محاضراته ##هذه أول مرة يسمع فيها أن المنهزم يريد أن يملي شروطه علي المنتصر##.
* التقييم الإسرائيلي لحرب أكتوبر..
ثم جاء يوم السادس من أكتوبر , وإذا بالدنيا تنقلب رأسا علي عقب .. المصريون يعبرون قناة السويس في ساعات, والحقيقة لم تكن حرب أكتوبر المجيدة من الناحية النفسية حربا تقليديا لتحرير أرض مغتصبة فحسب, بل كانت عملا مجيدا أكد به المقاتل المصري علي التخطيط والتفكير المنطقي السليم, بعد أن أشاعت كل وسائل الدعاية أن المقاتل العربي لا يستطيع في أي مرحلة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي أن يخطط تخطيطا علميا ناجحا لحرب ناجحة. من هذا المنطلق لم تكن حرب أكتوبر حرب استعادة أرض فحسب, وإنما كانت حرب استعادة ثقة.
وقال جيبر مراسل وكالة ##الأسوشيتد برس## : ## كان الشعب الإسرائيلي ينصت إلي الأنباء في الراديو وأجهزة الترانزستور في هدوء يشوبه الغم ## , مراسل آخر من نفس الوكالة في القدس يقول معلقا علي الحال في إسرائيل بعد الحرب: ## اختفي الناس الآن من الشورع المظلمة, رأيت حاخاما يصلي مع زوجته الأمريكية عند حائط المبكي, وتناقض هذه الصور تماما الجموع المحتشدة التي تدفقت نحو الحائط في سنة 1967 للصلاة في أيام الانتصار ## , وذكر خبراء عسكريون بريطانيون في تليفزيون لندن: ##إننا لا نشك مطلقا في أن مصر بعبورها القناة, وتحطيمها خط بارليف جاءت بعكس كل التقديرات والتوقعات, وإن تقدم القوات المصرية في سيناء هو نصر عسكري ضخم , وإننا نشك في جدوي وجود قوات إسرائيلية غرب القناة, لأن وجود هذه القوات يمكن أن يتحول إلي كارثة بالنسبة لإسرائيل## الجنرال الأمريكي إيفيل بانجر ذكر في مجلة ##يونيتدبرس##- لوس أنجيلوس : إني بدون الأسلحة والنفاثات الأمريكية كان محتوما أن تفني إسرائيل##, مجلة ##لانوفيل اوبزرفاتير## الفرنسية: نشرت مقالا بعنوان : ## نهاية دولة إسرائيل الكبري## بقلم فيكتور سيجلمان , يتحدث فيه عن أغاني الانتصار التي كانت ترددها إذاعة إسرائيل بعد حرب 1967 عن (شرم الشيخ), (القدس الذهبية).. لقد حلت محلها اليوم في حرب أكتوبر أغنية تلاحق الإسرائيلية ليلا ونهارا من الإذاعة والتليفزيون تقول كلمات الأغنية: (باسم الجنود الذين احترقوا أحياء في دباباتهم .. باسم الطيارين الذين هبطوا والنيران مشتعلة في أجسادهم …## ويعلق الكاتب علي ذلك بقوله : ## كانت أغاني 1967 تعبر عن فرحة الحياة, ولذة النصر .. أما اليوم فخارت قوي الأبطال ولم يسبق في تاريخ إسرائيل أن شعر الإسرائيليون بمثل هذه الشدة والحدة, وبالتعطش إلي السلام والهدوء وزوال التوتر ## , ثم يتحدث كاتب المقال عن أثر تصريحات موشي ديان وغيره من العسكريين الإسرائيليين حول الانتصار المزعوم عام 1967 فيقول : ## إن الإسرائيليين أنفسهم لا يشعرون بأنهم انتصروا علي الإطلاق, والظاهرة الغريبة بالفعل, تمثل في أن رجل الشارع الإسرائيلي لا يعبأ بمثل هذه الأمور ولا يهمه كثيرا من الذي انتصر ومن الذي انهزم , فالشغل الشاغل الرئيسي لرجل الشارع الإسرائيلي يتركز الآن في الانتهاء من هذه الأمور بسرعة إعادة الجنود, ووضع حد لقائمة القتلي والمفقودين والجرحي, لكي يتسني له أن يلتقط أنفاسه التي كادت أن تتوقف.. وحينما يقول الجنرال ديان : ## لسوف تصبح عما قريب أقوي بكثير مما كنا قبل الحرب ##يغضب الإسرائيليون أو يبتسمون باستخفاف .. لقد فقدوا الثقة في وزرائهم وجنرالاتهم السياسية الذين يتبادلون الاتهامات## , ويكتب ميشيل سولومون في صحيفة ##تربيون دي جنيف## السويسرية تحت عنوان : ## كلمة أخطائنا.. علي ألسنة جميع اليهود## ويقول : ## ترددت هذه الأيام في عناوين الصحف وفي المحادثات التي تدور بين الناس في إسرائيل كلمة عبرية هي كلمت ##ماندال## أي (الخطأ) , تلك الكلمة التي تحمل معني دينيا إلي حد ما والتي وقعت منذ بداية الحرب العالمية الإسرائيلية الرابعة سواء بالنسبة للتأخر في إدراك خطر الهجوم العربي , أإؤ فيما يتعلق بالأوضاع السيئة في الميدان, ونفس الشيء علي الخلافات التي ثارت بين الجنرالات والتي قامت الصحافة المحلية والعالمية بترديد صداها##, ونشرت مجلة ##التايمز## البريطانية تحقيقا عن أزمات مباحثات وقف النار بقلم أريك مارسدن يتناول في ختامه الوضع العسكري الإسرائيلي بقوله : ## إن الأدلة تتزايد علي وجود حالة من القلق تؤثر علي كل الشعب في إسرائيل وعلي الجنود في الجبهة##.
ويتلخص الشعور بخيبة الأمل في مقال زيف شيف الذي كتبه في صحيفة ##هارتس## المستقلة فيقول : ## إن الجنود يشكون من نقص الذخيرة وعدم كفاية المعدات ويقولون بأنه ينتابهم شعور مثير للإحباط لأنهم لا يتلقون إجابات عن الأسئلة التي يوجهونها حول الحرب , ثم كتب ##شيف## أنه توصل إلي استنتاجات مريرة وغريبة من الأحاديث التي أجراها مع عشرات الضباط والأشخاص الذين يشغلون موقع المسئولية وشيف من المراسلين المهمين بإسرائيل, وفي مقال آخر نشر جريدة ناسيونال تساتبونج بازل## السويسرية تحت عنوان : مزيد من الضحايا بعد ضريبة الدم ##.. يقول الكاتب : ##لقد جندت إسرائيل أكثر من مليون شخص- منذ اندلاع حرب يوم الغفران, وسوف يبقي هذا العدد الكبير في الجيش عدة أشهر علي الأقل, ويتكون هذا العدد من الشباب والغالبية من القوي العاملة ذات القدرات العملية…
وترتب علي هذا انخفاض في الإنتاج قيمته 40% ولم يعد الإسرائيليون يصدقون أبدا محدثهم العسكري حاييم هيرتزوج مدير مخابرات إسرائيل السابق . أنهم يستمعون إليه منذ سنوات .. وهو الذي صرح من اليوم الأول للقتال أن القوات المصرية ستعرف معني الهلاك والتدمير الكامل. وهو الذي قال للإسرائيليين وبالتحديد في يوم 27 فبراير 1971 إن النظام المصري بأكمله سوف يسقط.. وقال ## إذا افتتحت مصر النيران فإنني أحذر المصريين بأن الرد الإسرائيلي سيكون ثقيلا جدا, وعنيفا جدا وليس هذا فقط .. بل أن الرد الإسرائيلي لن يكون مفاجأة للمصريين وحدهم, ولكنه سيفاجيء العالم كله## , ثم قال بعد ذلك : ## إن أي هجوم مصري مصيره الفشل, هذه حقيقة.. ولكن ليعلم المصريون أن أي هجوم إسرائيلي سيؤثر بغير أدني شك علي هيبة ومركز الرئيس السادات ويعرض النظام كله للخطر ##, وذكر أيضا في موقع آخر : ## أن القيادة الإسرائيلية تتوقع أن يحاول المصريون القيام بعملية عبور للقنا ولكنني أقول للمصريين أننا نعد لهم مفاجأة قاصمة##. وتصريحات أخري لموشي ديان بالمئات منها ما أكده في 22 نوفمبر عام 1969 في مؤتمر صحفي : ##أن خط بارليف خط منيع يستحيل اختراقه بأية حال أننا أقوياء لدرجة تكفي أن نحتفظ به إلي الأبد إن عمليات العبور المصرية- إذا حدثت- ستلقي الرد الحاسم ولن تؤثر علي قبضة إسرائيل الحازمة علي خط بارليف## , وفي 18 نوفمبر عام 1970 في ##الكنيست## يذكر : إذا فضل المصريون استخدام القوة وعبور قناة السويس, فأنني أعلن أن قواتهم ستتحول إلي رماد ##, وفي 26 مايو 1971 ذكر أيضا في حديث خاص أجرته معه (وكالة أ.ب) : إذا حاول المصريون الإقدام علي مخاطرة العبور, فإن هزيمة دموية في انتظارهم## وفي حديث آخر في 9 سبتمبر 1971 مع (الوكالة الفرنسية) قال :## إذا حاولت مصر عبور القناة فسوف يتم إبادة قواتها, سيواجه الجيش المصري كارثة## , وفي 28 فبراير 1972 أكد في تصريحات صحيفة له أثناء زيارته واشنطن: ##إنني أحذر المصريين من الهلاك إذا أطلقوا النار##.
هذه هي حرب أكتوبر المجيدة التي غيرت فعلا مجري التاريخ بالنسبة لمصر ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها.. محت شعور الهوان عند المصريين طيلة ست سنوات من النكسة وجرحت كبرياء إسرائيل.. وهذه هي صورة الجيش الإسرائيلي الذي ظلت وسائل الإعلام العربي تضخم فيه علي أثر الضربة الجوية الإسرائيلية عام 1967 والتي أعقبها إعلاميا علي أوسع نطاق مقولة ##إن الجيش الإسرائيلي لا يقهر## دون أن تدري قوة المصريين
* مراجع الدراسة:
* ##وثائق حرب أكتوبر##- موسي صبري.
* ##البندقية وغصن الزيتون##- دافيد هيرست.
* ##الأيام المؤلمة في إسرائيل##- جان كلود جيبوه.
* ##وماذا بعد حرب أكتوبر؟##- مجموعة كتاب.
* بعض الصحف والإصدارات الصادرة عقب حرب أكتوبر .1973
* ##السادات الحقيقة والأسطورة##- موسي صبري.