شهدت مصر خلال السنوات الأولي من القرن العشرين,وتحديدا في الفترة من1908 إلي1911 -كانت البلاد تحت الاحتلال البريطاني- صراعا طائفيا حادا بين أقباط مصر ومسلميها,حيث ظهرت في تلك الفترة كتابات عديدة حول حقوق الأقباط ومشكلاتهم وحقهم في المساواة والمشاركة,كما شهدت هذه الفترة أيضا اغتيال بطرس باشا غالي(رئيس الوزراء آنذاك) وعقد المؤتمرين القبطي بأسيوط والمصري(الإسلامي)بضاحية مصر الجديدة بالقاهرة.
في ذلك الوقت من تاريخ الوطن أخذ الحوار الطائفي يظهر بوضوح في الصحافة المصرية,حيث برزت معارك صحفية عدة من منطلق ديني,وكان ميدان هذا الحوار الصراع هو صحيفةالوطن لصاحبهاجندي إبراهيم,وصحيفةمصرلصاحبها تادرس شنودة المنقباديمن جهة الأقباط….وصحيفةالمؤيدالتي كان يصدرها آنذاك الشيخعلي يوسفوبعض كتاب صحيفة الحزب الوطنيالذي أسسهمصطفي كاملسنة1907 اللواءمن جهة المسلمين.
والواقع أنه رغم هذا الصراع الذي قسم أبناء الوطن الواحد إلي فريقين متنازعين فيما بينهما,كانت هناك العديد من المحاولات الجادة والتي عمل أصحابها علي رأب الصدع وحل الصراع القائم والمساهمة في إطفاء نار الفتنة ولم الشمل.
من ذلك مثلا أن جمعيةالرابطة المسيحيةبالقاهرة نظمت ندوة يوم27مارس 1908 بدار التمثيل العربي حضرها لفيف من رؤساء المصالح والقضاة والمحامين والأعيان والأدباء وأصحاب الصحف…من المسلمين والأقباط وكان المتحدث فيها العالمأحمد بك زكيالسكرتير الثاني لمجلس النظار,أما عنوان الخطاب الذي ألقاه-والذي اهتمت الصحف بنشره آنذاك-فكان مصريون قبل كل شئ…أو توثيق الارتباط بين المسلمين والأقباط.
حيث أكد في خطبته علي أن الإحساس هو دليل الحياة,وأن التضامن (أي الاتحاد والارتباط)هو رائد العمران,وأن الفرد هو خادم المجموع(الجماعة),كما أن المجموع يتكفل بخدمة كل فرد علي السواء,مؤكدا أن أي أمة تولد فيها الإحساس,وسعي أفرادها إلي التضامن,نبشرها بخير قريب,وفلاح عاجل.
وهو يقول أيضا(المسلم والقبطي وإذا شئتم قلت القبطي والمسلم,فالأولون الآخرون والآخرون الأولون.وليس لهما إلا أم واحدة هي مصر,وليس لهما إلا أب واحد هو النيل.فهما صنوان بل شقيقان قد فرق بينهما الزمان حينما فسدت الأخلاق وتنكرت المعارف في هذه البلاد,فتحكم فيها الأجنبي والطارئ والدخيل,سواء كانوا من هذا الدين أو ذلك الدين…تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نقول بغير الوطن وأن لا نفزع لغير الجامعة القومية.هذا تاريخنا وتاريخكم,ويشهد لأجدادنا وأجدادكم,ويشهد علينا وعليكم.فما بالنا لا نرجع لسنة الأسلاف وقد كان فيها مجدنا ومجدكم؟…
ثم أخذ يتحدث عن العلاقة الطيبة التي جمعت بين المسلمين والأقباط عبر التاريخ,وكيف كان الحكام الغرباء يضطهدون المصريين من المسلمين والأقباط علي حد سواء,معترفا بأن الاضطهاد والضغط كانا أشد وقعا علي القبط.
صاحب هذا الخطاب هوأحمد زكي باشا(1860-1934)الملقببشيخ العروبة,وهو عالم لغوي ومؤرخ ولد بالإسكندرية وتعلم بالقاهرة وعمل مترجما,ويعد أحد رواد البحث العلمي في التراث العربي القديم,وكان يجمع في بيته الذي أطلق عليهدار العروبةمجموعة ضخمة من المخطوطات العربية النادرة حقق بعضها وأهداها إلي دار الكتب المصرية حيث تعرف إلي الآن باسمالمكتبة الزكية…
والذي يبدو أن خطابه هذا قد أثار إعجاب الكثير من الأقباط ومن ذلك مثلا أن الكاتب والمؤرخ جرجس فيلوثاؤس عوض-صاحب المجلة القبطية(1907-1910)كتب مقالا في جريدةمصربتاريخ10أبريل1908 ذكر فيه أن المسلمين والأقباط تجمعهم الرابطة الوطنية وكذا الرابطة الجنسية حتي أنه يصح من باب الجنسية أن يطلق اسمقبطيالذي لم يكن سوي تعريب كلمة إيجيبتوس اليونانية علي كل مصري…
يضيف قائلا…
إن المصري هو القبطي وبالعكس فالمسلمون المصريون والمسيحيون المصريون هم أبناء رجل واحد,كل فريق قد ارتضي بأن يعبد الله علي ما رآه صوابا.فلم لا نتحد ونعمل علي ما فيه مصلحة البلاد غير ناظرين حتي يأخذ بناصرنا الترك والعجم أو يساعدنا الفرنج أو المغاربة لأن التمسك بالجامعة الدينية يهوي بنا إلي الانحطاط ويعطل مصالحنا القومية جميعها.
وهكذا كانت هذه الخطبة-وما صاحبها من رد فعل -صفحة مجهولة من تاريخ المواطنة المصرية في تاريخ مصر الحديث,كما مازال دفتر المواطنة مفتوحا لكل مساهم سواء بالتنظير أو الممارسة الفعلية علي أرض الواقع/الوطن…مصر.