”المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الديني”, الذي عقدته جماعة ”مصريون ضد التمييز الديني” (التي يرأسها د. م. محمد منير مجاهد) يومي 11 و12 أبريل في القاهرة,أثبت أن هناك من الشرفاء في مصر من باتوا يرفضون القبول بالأمر الواقع المليء بالظلم.ولنا عدد من الملاحظات علي هذا المؤتمر وحوله:
* ما جري صباح الجمعة 11 أبريل داخل وأمام نقابة الصحفيين, حيث كان من المقرر (منذ شهرين علي الأقل) عقد المؤتمر المذكور, يلخص بتركيز شديد مأزق مصر الحالي. ففي البداية هناك ”اختطاف” نقابة, يفترض أن يكون أعضاؤها حملة أقلام, وليس (جنازير أو ”شوم”), بواسطة مجموعة من أعضائها (يقال ستة أفراد) رفعت شعار الاستنفار والتهييج.وهناك عجز النقيب عن ”إقناع” تلك المجموعة بالتراجع عن اعتراضها علي المؤتمر, ورفضه اللجوء إلي الإجراءات القانونية الواجب اتباعها في مثل هذه الظروف لفرض الشرعية, واضطراره إلي إلغاء موافقته السابقة علي استضافة المؤتمر مما يعني انتصار العنف والابتزاز.
* إصرار أعضاء جماعة ”مصريون ضد التمييز الديني” علي عقد مؤتمرهم في نفس اليوم, كان عنصرا أساسيا من عناصر نجاح المؤتمر إذ أثبت أن لهم قضية يتمسكون بها ولا يخضعون في سبيلها لابتزاز. كما أن عرض حزب ”التجمع” لاستضافة المؤتمر فورا كان دليلا ناصعا علي أن هذا الحزب الذي له مواقف فعلية وواقعية (وليست كلامية) في شأن المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق.
* برغم الضغط وضياع الوقت الذي سببه تغيير مكان المؤتمر, وبرغم قلة الإمكانات بصفة عامة, فقد جاء المؤتمر أفضل تنظيما من مؤتمر ”المواطنة” الذي عقده ”المجلس القومي لحقوق الإنسان” في نوفمبر .2007 هذا من ناحية ”الشكل”: أما عن ”الموضوع”, ففي رأينا أن المؤتمر الأخير قد تفوق علي سابقه بكثير, إذ تعرض لمشكلات ”شائكة” بجدية وشجاعة وموضوعية افتقدها إلي حد كبير الآخر الذي بدا متكلسا وحريصا علي ”توازنات واعتبارات” معينة أكثر بكثير من حرصه علي إحراز تقدم في موضوع ”المواطنة”.
* في جلسة خاصة هدفها إيضاح مواقف الأحزاب والقوي السياسية إزاء ”التمييز الديني”, شاركت أحزاب ”التجمع” (أمينة النقاش, نائب الرئيس) و ”الجبهة الديموقراطية” (أسامة الغزالي حرب, الرئيس) و ”الغد” (إيهاب الخولي, الرئيس) و ”الوطني الديموقراطي” (جهاد عودة, عضو لجنة السياسات) و ”الدستوري” (ممدوح رمزي, نائب الرئيس). وباستثناء ”الوطني” الذي قدم تصورا نظريا عاما عن المواطنة فإن باقي الأحزاب كانت واضحة في كلامها حول الموضوع. وقد كانت دعوة حزب التجمع للالتفاف حول ”العلمانية”, بعد تنقية مفهومها من الصورة السلبية والمشوهة التي ارتبطت بها, دعوة شجاعة تبين أن هناك من باتوا يدركون أن العلمانية هي شرط للديموقراطية ولإقامة الدولة الحديثة في مصر كما في غيرها.
* حفل المؤتمر بعدد من الكلمات والأوراق المهمة عالية الجودة بصورة لافتة, تعاملت مع الموضوع من زوايا أكاديمية وتطبيقية; تاريخية وواقعية; رصدية وتحليلية ـ وهو ما يحتاج إلي عرض يضيق به هذا المكان. وكانت هناك أيضا الكلمات ”عالية الأوكتين” مثل كلمة الدكتور سالم سلام, أستاذ الطب بجامعة المنيا (وهو بطل حقيقي, سبق أن استقال من منصبه كرئيس قسم طب الأطفال, احتجاجا علي التمييز ضد طالبة قبطية) والتي فضح فيها أساليب التمييز الفادح. وكانت هناك الشهادات التي تدمي القلوب ممن يقاسون الأمرين في حياتهم بسبب التمييز الذي غالبا ما يتستر بالقانون. وكانت هناك مفاجأة عدد من الشباب الذين قرروا الخروج علي ”مسلمات” التفرقة عن طريق كسر الحواجز وبناء الجسور بين المختلفين دينيا.
* ذكر د. فؤاد عبد المنعم رياض, عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان, والقاضي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية, في النص المكتوب لكلمته أمورا بالغة الأهمية, مثل أن [إهدار مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص يعد جريمة في حق الوطن, وهي جريمة وخيمة العواقب] وأن [التمييز ضد أقلية معينة بشكل منهجي قد أصبح يشكل جريمة وفقا للمواثيق الدولية تعرف باسم جريمة الاضطهاد presecution وتدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية فينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تم إنشاؤها وفقا لاتفاقية روما 1998 (مادة 7, فقرة ح) أنه يعتبر جريمة ضد الإنسانية ”أي اضطهاد منهجي لجماعة محددة من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية أو ثقافية”. وتختص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم باعتبارها جرائم دولية نظرا لأن ضحيتها هو الفرد باعتباره إنسانا له حقوق لصيقة به”].. وأيضا: [أن الأقباط لا يشاركون في الشأن المصري العام بالقدر الذي يتناسب مع وزنهم في الجماعة المصرية, ويرجع ذلك إلي عاملين, الأول هو عدم وجودهم غالب الأحيان في مواقع قيادية مسئولة, والثاني هو عدم تمثيلهم في المجالس النيابية بالعدد الذي يتفق مع نسبتهم في الجماعة المصرية. لذلك يجب تدارك هذا النقص بكافة الطرق وأولها طريق التشريع الذي يتمثل في النص علي مبدأ التمييز الإيجابي Affirmative Action في المجالس النيابية وفي غيرها من المؤسسات بحيث يتعين وجود نسبة معينة من الأقباط في كافة هذه المؤسسات. وقد سبق إعمال هذا الأسلوب في عديد من الدول لتمكين الفئات التي لم تنل حظها من المشاركة لأسباب متعلقة بالجنس أو اللون. وذلك خلال فترة مؤقتة شرط أن تكون كافية كي يستقر في الوعي الجماعي قبول وأهمية مشاركة هذه الفئات في العمل العام].
لكن د. رياض أدهشنا ـ من ناحية أخري ـ بقوله في كلمته الملقاة أن ”الأقباط ليسوا أقلية” متخذا دليلا علي ذلك مقولة اللورد كرومر الشهيرة. وهو كلام قد يصدر عن ”سياسي” يهمه التمييع والتغطية علي موضوع التمييز بأي شكل, أو قد يصدر بصورة عاطفية أثناء أحد لقاءات تقبيل اللحي, ولكن لا يمكن توقعه من أستاذ قانون دولي مرموق لأن التعريف الدولي للأقلية أمر لا يحتمل ”الفصال”. وأيضا ذكر د. رياض أن [النظام الديموقراطي يرتكز علي ركنين أساسين هما أن يكون الحكم للأغلبية وأن تحترم حقوق كافة الأقليات] بينما كان من الضروري أن يؤكد بوضوح, وهو الأستاذ المدقق, إلي كون ”الأغلبية” المشار إليها في عبارة ”الحكم للأغلبية” هي أغلبية ”سياسية” فقط لا غير.
* جاء البيان الختامي للمؤتمر مطولا بعض الشيء, لكنه ابتعد عن الأساليب الإنشائية والتزم بالموضوعية العلمية وبالتحديد. وجاء علي رأس التوصيات: [مطالبة مؤسسات الدولة بالقيام بدورها في تفعيل أسس دولة سيادة المواطنة والقانون (..) وفي تكريس مبدأ المساواة (..) كسياسة عامة تترجم واقعيا فيما يتخذ من قرارات إدارية ومشروعات قوانين].
ولكن كنا نتمني التأني في التقدم بالتوصية التي تنص علي [التوجه إلي خيرة خبرائنا القانونيين والحقوقيين للعمل علي تعديل المادة الثانية من الدستور باستنباط مقاصد الشريعة الإسلامية, جنبا إلي جنب مع استلهام كافة القيم التي استقرت عليها الإنسانية والتي تضمنتها جميع الأديان والشرائع السماوية وغيرها من قيم حثت عليها مواثيق حقوق الإنسان وتوافق عليها العالم وأقرتها منظماته الدولية لجعلها هي المصدر الرئيسي للتشريع]
ومن بين أسباب اعتراضنا علي تلك التوصية, بغض النظر عن كون تعديل أية مادة من الدستور ليس عملا يقوم به ”الخبراء”, الذين يجب أن يقتصر دورهم علي ”صياغة” ما يستقر عليه المجتمع والقوي السياسية, هو أن أحد عيوب النص الحالي للمادة الثانية الغموض, إذ لا يوجد تعريف محدد لـ”مبادئ الشريعة الإسلامية”, وإذا بالنص المقترح يزيد الأمر غموضا إذ يورد مجموعة من ”المقاصد” والمبادئ التي تحتوي ـ مهما قيل ـ علي تناقضات داخلية, ولا توجد آلية واضحة لتحديد أيها أولي بالمرجعية. أضف إلي ذلك: من قال إن الدستور يجب أن يكون له مصدر رئيسي (أو ”المصدر الرئيسي”) بينما لا تذكر دساتير العالم المتحضر سوي عدد من الأسس المنصوص عليها بالتحديد كالحرية والمساواة والعدالة, والالتزام بمواثيق حقوق الإنسان (التي تترجم تلك المبادئ بشكل محدد) وأيضا بفصل الدين عن الدولة. وبرغم يقيننا بحسن النوايا, نظن أنه كان الأجدر بموضوع مهم كهذا أن ينال حقه من الدراسة المستفيضة قبل أن يعرض علي المؤتمرين.
***
ختاما وبصفة عامة,كان المؤتمر ناجحا بكل المعايير, ويزيد من وقع وطعم نجاحه كونه فاق كل التوقعات. بل يمكن الزعم أنه يمثل لحظة ”تاريخية” لم تعهد مصر مثيلا لها منذ عقود.
لكن هذا كله, من ناحية أخري, يضع عبئا شديدا ومسئولية هائلة علي المجموعة بسبب الارتفاع الناشئ في سقف التوقعات المستقبلية. لقد بدأت رحلة الألف ميل, ومن الضروري الاهتمام باستثمار النجاح واستمرار الزخم قبل أن يفتر الحماس (كما هي عادة المصريين), مع مراعاة أهمية (بل حيوية) الحذر من كل القوي التي ترفض ما تسعي إليه المجموعة, وستحاول بكل الطرق ”الشرعية” وغير الشرعية أن تصيبها وأهدافها في مقتل.. ومن هنا مسئولية أن ”تجاهد” المجموعة ورائدها بلا هوادة.
[email protected]