الموسيقي دم يتدفق في عروق الحياة لتحيي النبض في وجدان شعبها وتحفظ له سماته وحضارتة علي مر الزمن… لهذا نشأ معهد الموسيقي العربية ليحفظ لنا هويتنا القومية.
البداية كانت نادي الموسيقي ليضم الهواة ومحبي الموسيقي من طبقة الأعيان والمثقفين, وانعقدت أول جمعية عمومية في يناير 1914 لوضع أول قانون للنادي وانتخاب أول مجلس إدارة. كان أول رئيس للمجلس هو مصطفي بك رضا وذاع صيت النادي ورئيسه بين رجال العلم والأدب وزاد مريدو النادي واتسعت شهرته فانضم إلي عضويته الكثيرون, وبعد مرور أربع سنوات وبالتحديد في 24 يناير 1918 اهتم الملك فؤاد الأول – ملك مصر والسودان آنذاك- بهذا النادي الذي ذاع صيته فمنحة المال والعطايا وكثرت تلك العطايا الملكية فأقبل البعض عليه يشجعونه ماديا وأدبيا وزاد عدد أعضاء النادي.
كان النادي في بادئ الأمر في دار صغيرة بشارع محمد علي بإيجار شهري 3 جنيهات و500 مليم ثم استأجر دارا كبيرة بشارع البوستة القديمة بإيجار 16 جنيها في الشهر فازداد الإقبال عليه… ففكروا في بناء دار علي نمط عربي بديع تكون مقرا لناديهم, ويعد أول معهد للموسيقي في الشرق تفخر مصر بأن تكون السباقة في إنشائه وصادفت هذه الفكرة ارتياحا لدي الكثيرين ومنحتهم الحكومة من أملاكها أرضا بشارع الملكة نازلي رمسيس حاليا, وتم تقسيمها إلي قطعتين بمساحة كلية 3200 متر بعقدين إسميين إيجار لمدة 50 سنة, الأولي 1200 متر يبدأ إيجارها من 26 ديسمبر سنة 1920 والثانية 2000 متر من 26 أبريل سنة 1923 حتي 25 ديسمبر 1970, علي أن تؤول الأرض وما عليها من المباني للحكومة بعد انتهاء مدة العقد.
بدأت اللجنة التنفيذية في إنشاء النادي واشترك في وضع التصميمات فيروتشي بك, وهو مهندس أول السرايات الملكية, وكذلك المسيو باستير مفتش عام بمصلحة المباني, وفرج بك أمين مهندس السرايات الملكية وهو الذي أشرف علي جميع الرسومات الزخرفية للدار, وكانت تكلفة التصميم النهائي للدار مبلغا يتراوح بين 25 ألف إلي 30 ألف جنيه, وكانت خزانة النادي لا تحوي سوي المبلغ اللازم لوضع الأساس, وتجمع الأعضاء الذين آمنوا بقضية النادي وأخذوا في تنفيذ المشروع وكلما توفر لهم مال أنفقوه في إتمام المشروع حتي تم تشييد دار المعهد.
وعلي الرغم من الطراز العربي الذي شيدت عليه الدار الجديدة والذي استغرق جهدا في وضع الرسوم ودقة في التنفيذ إلا أن ذلك تم بفضل الحب والإخلاص والتعاون, وزينت الدار بمجموعة رائعة من آيات الفن العربي والزخارف وأصبحت بحق تحفة تدخل في عالم الآثار الثمينة.
من أهم معالم الحضارة في هذا المبني الذي أنشئ في بداية القرن العشرين وجود غرفة للتدخين لأن التدخين كان محظورا خارجها, وأنشئ ما يشبه المتحف الذي يضم الآلات الموسيقية من مختلف البلاد والعصور.
وفي يوم الخميس 26 ديسمبر 1929 أقيمت حفلة الافتتاح وحضرها الملك فؤاد الأول. ورأي أعضاء المعهد بهذه المناسبة أن يتغير اسمه من نادي الموسيقي الشرقية إلي معهد الموسيقي الشرقية ودعي إلي الحفلة كبار رجال الدولة والوزراء ورئيس الوزراء عدلي يكن باشا, ومنح جلالة الملك فؤاد الأول ألف جنيه مصري للمعهد كي يعينه علي إدارة شئونه المالية.
وكان نشيد الترحيب من تأليف أحمد شوقي وتلحين مصطفي بك رضا وفي مطلعه
فؤاد تعطف وزار
دار الموسيقي ركابه
روضة دخلها آزار
وكل روضة رحابه
كما نظم الشاعر أحمد شوقي بك قصيدة ألقاها الأستاذ علي الجارم مفتش اللغة العربية وهو شاعر ذو مكانة رفيعة مما زاد الحفل ثقلا كما غني الموسيقار- المبتدئ آنذاك- محمد عبد الوهاب من ألحانه قصيدة الليل.
وبعد فترة من عمل المعهد رفع إدارته التماسا للملك فؤاد بتغيير الاسم إلي المعهد الملكي للموسيقي العربية وذلك في 9 مايو 1933, واعتبرت الحكومة المعهد من الهيئات الثقافية ذات المنفعة العامة وأنه يسد حاجة قومية ماسة للنهوض بالفن ونشره… في عصر كانت فيه الأغاني المبتذلة منتشرة كالوباء فأضاعت البقية الباقية من جمال الفن وروعته لذلك أعلن المعهد حربا علي هذه الأغاني واتصل بأولي الأمر بوزارة الداخلية حتي أنشأت بها مكتبا خاصا لمراقبة الأغاني التي تعد للنشر علي الجمهور.
ولأن المعهد لاحظ أن الكثيرين يقرنون اسم الموسيقي بالعبث حتي رسخ في الأذهان أن مجالس الأنس والتطريب هي مجالس للعربدة واحتساء الخمر مما نفر الناس من تعليم الموسيقي لأولادهم… فقد حرم المعهد علي أعضائه وزائريه معاقرة الخمر ولعب الميسر لينقي مجتمعاتهم وسهراتهم من تلك السقطات وليرفع من مستوي المشتغلين بالموسيقي من هواة ومحترفين… حتي زالت من أذهان الناس تلك الفكرة السيئة عن مجالس الموسيقي والطرب.
ورأي المعهد منذ نشأته أن النهضة الموسيقية لن تقوم علي أساس متين إلا بإنشاء مدرسة للموسيقي العربية وبالفعل تمكنوا من إنشائها وانضمت إلي وزارة المعارف العمومية في 16 نوفمبر 1925 والتحق 85 تلميذا بالمدرسة لتعلم الموسيقي علي أيدي كبار الموسيقيين في مصر, وكان التلاميذ في بادئ الأمر من أبناء أعضاء النادي ومن مدرسة اليتامي التابعة لوزارة الأوقاف وآخرون من مختلف المدارس الابتدائية والثانوية, ولم يكن المعهد يكتفي بجهود أعضائه وأبحاثهم للرقي بالموسيقي العربية بل كان يستمد العون ممن يتوسم فيهم الخبرة والإضافة للموسيقي فاستعان بالكثيرين من المشتغلين بتدريس الموسيقي العربية داخل القطر وخارجه مثل كورت زاكس الألماني, ومكن المعهد البنات والنساء في التعلم بالمعهد والحصول علي نصيب من علوم الموسيقي فأنشأ قسما خاصا لتعليم البنات أصول الموسيقي والغناء.
وبهذا عاش المعهد منذ نشأته حاميا للموسيقي ومحافظا علي التراث الموسيقي العريق, وحينما ساد استخدام اللاسلكي وجد المعهد في هذا الاجتماع خير أداه لنشر الموسيقي فأخذ في دراسة إنشاء محطة إذاعة في مقره يذيع منها حفلاته فوافقت الحكومة علي هذه الفكرةبإشراف وزارة المعارف.
وعلي ثروة ومجد التاريخ والموسيقي عاش المعهد ويظل لحنا جميلا للزمن الماضي وبريقا لامعا للحاضر والمستقبل.