21 يوما مضت علي ثورة الشباب.. شباب مصر الواعد المتفتح كالورد في الربيع.. في البداية لم يقل أحد إنها ثورة قالوا إنها مظاهرات سلمية وهتفوا سلمية.. سلمية فالذين خرجوا كالورود المتفتحة لم يكونوا سياسيين, ولم يكونوا أحزابا, ولم يكونوا جماعات.. كانوا شبابا يطالبون بالحرية والكرامة والعدل والمساواة.. هكذا كانت البداية لكن المسيسين لم يتركوهم.. ودخلت الأحزاب والقوي المختلفة وكانت أياما عصيبة علي مصر كلها.. الموتي بالمئات والمصابين بالآلاف وبكت مصر بدموع من دم.. وقبل أن تدور تروس المطبعة بساعات ألقي الرئيس مبارك خطابا فوض فيه صلاحياته لنائبه, وطلب من البرلمان تعديل 5 مواد من الدستور وحذف مادة أخري..
مع هذا مازال الشباب معتصمين في ميدان التحرير ويهددون بتصعيد الاحتجاجات..
وإلي كل القلوب القلقة نقول اطمئنوا.. اطمئنوا فمصر مباركة كوعد الرب.. ومن منظور إيماني تعالوا نقرأ المستقبل..
مصر مباركة..
نبوءة العهد القديم تقول: من مصر دعوت ابني (هوشع 13: 1). ومن قبل أن تتبارك مصر بالعائلة المقدسة تباركت بكثير من رجال الله وأنبيائه منهم إبراهيم أبو الآباء, يوسف الصديق, يعقوب أبو الأسباط, موسي كليم الله, إرميا النبي.. وإلي مصر أشار الكتاب المقدس مئات المرات, وتحديدا 584 مرة منهم 560 مرة في العهد القديم و24 في العهد الجديد, كما وردت كلمات مصري, مصرية, مصريات, مصريون 120 مرة منها 115 مرة في العهد القديم.. بل إن اسم مصر يرجع إلي مصرايم ابن حام بن نوح وهو بذلك الثاني عشر من آدم أبي الجنس البشري.
ويصف سفر التكوين -أول أسفار الكتاب المقدس- يصف أرض مصر بأنها جنة الرب.. وعندما يصف سفر التكوين في إصحاحه الثالث عشر مصر بأنها جنة الرب فهذه إشارة إلي غني أرضها وخصوبتها وكثرة خيراتها, بل إن جنة الرب صارت تعرف بأنها كأرض في مصر.. وأذكر هنا كلمة مأثورة للمتنيح نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والبحث العلمي: ما أسعدنا بمصر وما أشقانا من غيرها وكان في تفسيره لهذا يري أن الله تعالي قد جمل أرض مصر وزينها وجعلها أجمل أرض, ليقيم فيها أسعد الناس فهي فردوس النعيم, ومن يخرج منها أو عليها فقد خرج من جنة الرب.
ومن المهم هنا أن نعود إلي مقولة هيروديت مصر هبة النيل ونمضي مع المقولة فإن كانت مصر هبة النيل, فالنيل هو أحد أنهار الجنة الأربعة, وعند قدماء المصريين أن النيل ينبع من عند الله, عبدوه وجعلوه إلها.. ويقول الكتاب المقدس في سفر التكوين -الإصحاح الثاني 10: 14-: وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة, ومن ثم يتشعب فيصير أربعة رؤوس, اسم إحداها فيشون, واسم النهر الثاني جيحون, واسم النهر الثالث حداقل -دجلة- والنهر الرابع هو الفرات. والمعروف في التراث المصري القديم كما هو مدون في صلوات الكنيسة القبطية وطقوسها أن نهر جيحون -وهو الثاني من أنهار الجنة- هو نهر النيل.
* * *
أدعوكم لنقلب الصفحات وننتقل من العهد القديم إلي العهد الجديد حيث تباركت مصر بمجئ العائلة المقدسة.. ونحن في هذا التواصل نتوقف قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي 700 عام لنقرأ النبوءة التي وردت في سفر إشعياء النبي: هوذا الرب راكب علي سحابة سريعة وقادم إلي مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها.. وهي النبوءة التي تحققت بميلاد السيد المسيح كما جاء في إنجيل القديس متي حيث ظهر ملاك الرب ليوسف النجار في حلم قائلا له قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر وكن هناك حتي أقول لك, لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه, فقام يوسف وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلي مصر.. وهنا هب يوسف من نومه وقص الأمر علي مريم فنهضت مسرعة تحمل الطفل بين ذراعيها وتضمه إلي صدرها, وخرجت مذعورة خائفة من بطش هيرودس, وللوقت تنبهت سالومي فقامت تجمع بعض الملابس وقليلا من الزاد ليعينهم في سفرهم وحملتهما علي عجل وخرجت مسرعة وراء سيدتها, أما يوسف فكان قد خرج يبحث عن أتان تركبها ثم لحق بهما, وكان الليل قد انتصف فرحلوا والخوف من هيرودس وبطشه يطاردهم.
وهنا نتوقف لنسترجع سؤالا طرحه قبلنا الكثيرون منذ كانت رحلة الهروب من بيت لحم: لماذا اختيرت مصر للهروب إليها؟!.. والإجابة الوحيدة التي لم يختلف حولها أحد علي امتداد عشرين قرنا من الزمان أن مصر من قديم الأزمان كانت ولاتزال الحمي لكل من ينزل بها, فإليها جاء إبراهيم ويوسف ويعقوب, وفيها نشأ موسي وشقيقه هارون.. وأيضا -وأعتقد أنه السبب الأول- لتتحقق النبوءة القائلة: من مصر دعوت ابني وليتبارك شعبها تحقيقا للآية: مبارك شعبي مصر.. ويري كل المؤمنين أن في هذا حكمة سماوية فقد كان في قدرة الرب أن يحرس يسوع الطفل وهو في بيت لحم, ولكن الرب أراد لمصر -أرضا وشعبا- أن تنال البركة بدخول العائلة المقدسة.
* * *
ومن بعد العائلة المقدسة تباركت مصر بكاروز المسيحية القديس مرقس الذي وصل إلي الديار المصرية في النصف الثاني من القرن الميلادي الأول -حوالي سنة 58 ميلادية- أي في السنة الخامسة والعشرين بعد الصعود, وظل يبشر في صعيد مصر نحو ثلاث سنوات تحولت فيها البلاد من ظلام الكفر والرذيلة إلي فردوس ينعم بالحب والسلام, وواصل رحلته التبشيرية إلي أن دخل المدينة العظمي الإسكندرية -سنة 61 ميلادية- من بين المسلتين القابعتين عند بابها في الميناء الشرقي.. وبكلمة الله المدعمة بالروح القدس اجتذب مارمرقس قلوب سكان الإسكندرية, ومنها انتشر الإيمان في كل الأرجاء.
ومع انتشار المسيحية أخذ ينظم بنيان الكرسي المرقسي ليكون ثابتا إلي الأبد فرسم أنيانوس أسقفا, ورسم معه أحد عشر قسيسا, وطلب منهم إذا مات البطريرك أن يختاروا رجلا فاضلا ليكونوا اثني عشر أبدا.. ويذكر ساويرس ابن المقفع في تاريخ البطاركة أنه بعد استشهاد القديس مرقس جلس بعده أنيانوس, وبعد أن تنيح الأخير سنة 84 ميلادية جلس ميليوس ثالث بطاركة الإسكندرية, وظل خلفاء الكاروز مارمرقس عبر الأجيال إلي البطريرك السابع عشر بعد المائة قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث.
وكما وضع مامرقس الأسس والتقاليد التي تحفظ كيان الكرسي الرسولي الذي أسسه, فإنه وضع صلاة القداس, ولقنه إلي خليفته أنيانوس, وظل يتناقل للخلف من السلف إلي أن دونه البابا أثناسيوس الرسول البطريرك العشرون.. ومازالت ترتفع صلاة القداس في كل الكنائس مبتهلة إلي الله في أوشيات من أجل سلامة البلاد ورخائها.. ففي أوشية المياه يقول الشماس: اطلبوا عن صعود مياه الأنهار في هذه السنة لكي يباركها المسيح إلهنا ويصعدها كمقدارها ويفرح وجه الأرض ويعولنا نحن البشر.. وفي أوشية الزرع يقول: اطلبوا عن الزرع والعشب ونبات الحقل في هذه السنة لكي يباركها المسيح إلهنا لتنمو وتكثر إلي أن تكمل بثمرة عظيمة.. وفي أوشية الأهوية والثمار يقول: اطلبوا عن أهوية السماء وثمرات الأرض والشجر والكروم وكل شجرة مثمرة في كل المسكونة لكي يباركها المسيح إلهنا ويكملها سالمة بغير آفة..
* * *
ومن يوم أن أتي المسيح الرب إلي بلادنا, ومن بعده مارمرقس الرسول, ونحن نتمتع ببركة خاصة.. عن هذه البركة يقول المتنيح نيافة الأنبا غريغوريوس: نحن في مصر نتعامل بسهولة مع السمائيين, والسمائيون يتعاملون بسهولة معنا.. ولا يوجد أي بلد من بلاد العالم يتعامل بسهولة كما يتعامل الأقباط في مصر مع المسيح والعذراء وسائر القديسين من مارمرقس, إلي مارجرجس, إلي مارمينا العجائبي, إلي الأنبا برسوم العريان, وإلي الست دميانة.. ونحن أيضا ننعم من وقت إلي آخر بظهور شهود كثيرين من الذين رحلوا إلي العالم الآخر, يفتقدون المرضي منا, ويعزون الحزاني, ويشجعون المتعبين والمتألمين, نراهم بعيوننا جهارا ونسمع أصواتهم بآذاننا في وضوح وقد نشاهدهم في الأحلام وفي الرؤي.. ونحن في مصر ننعم بهذه البركات الروحانية المتوالية مما يحسدنا عليها كل شعوب العالم.. وإن كان هذا فضلا من الله فإنه أيضا ميزة من ميزات شعبنا, لأن شعبنا علي وجه العموم يتميز بالبساطة وبالتدين, شعبنا شعب يأخذ الدين بالبساطة ويفرح بالحقائق الدينية ويقبلها قبولا طيبا وعميقا, يقبلها بغير خبث وببساطة روحية إيمانية.. الدين بالنسبة لشعبنا حياة, الدين عندنا ليس دينا نظريا عقليا نستعمله عند اللزوم ونتركه عند اللزوم.. الدين يجري في عروق شعبنا, وفي شرايينه, وفي حياته العملية, في الشارع وفي العمل وفي البيت وفي العائلة وفي معاملاته الخاصة.
* * *
لهذا أنا مطمئن
مطمئن من منظور إيماني
فكلمات الرب لا تزول أبدا
مبارك شعبي مصر
وعند الشدائد لابد أن يقف
الشعب المبارك .. يقف كل
مصري علي قلب رجل واحد
لتبقي مصر مباركة