في مايو القادم سيجتمع أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بالعاصمة الأوغندية كامبالا, حيث سيخصص القسط الأكبر من وقت المؤتمر لمناقشة الموضوع الأساسي المطروح علي أجندة الاجتماع والمتمثل في إمكانية توسيع الولاية القضائية للمحكمة كي تشمل ##جريمة الاعتداء##, ولتضم إلي قائمة الجرائم الأخري التي تدخل في اختصاصات المحكمة, وهي فكرة نعتقد أنها سيئة علي أكثر من صعيد. فقد أنشئت محكمة الجنايات الدولية لغرض محدد يتجسد في إقامة آليات واضحة لمقاضاة جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية, التي تخلف العديد من الضحايا, ويكون لها تداعيات سياسية واجتماعية كبري ليس فقط علي الجماعة المستهدفة, بل علي النظام الإقليمي وعلي السلم والأمن الدوليين.
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلي ثماني محاكمات معروضة حاليا علي محكمة الجنايات الدولية, جرت كلها في أفريقيا بسبب الحروب الأهلية بين دولها, وإلي حد الآن لم تصدر أية إدانة لأحد المتهمين في تلك الجرائم والانتهاكات الخطيرة.
وتبقي الخاصية الأساسية لتلك الصراعات والجرائم التي تنظر فيها المحكمة أنها قامت داخل الدول بين أطراف متصارعة علي السلطة, أو بسبب النزاع علي الموارد والاحتقان العرقي وغيره, لكن ذلك سيتغير في حال أقر المقترح القاضي بتوسيع الولاية القضائية للمحكمة للنظر في الصراعات بين الدول, أو في حالات الاعتداء التي تعرفها الأمم المتحدة بلجوء إحدي الدول إلي استخدام القوات المسلحة ضد دولة أخري بطريقة لا تنسجم مع ميثاق الأمم المتحدة.
ويري المدافعون عن هذا التمديد لصلاحيات محكمة الجنايات الدولية أن المحاولات السابقة لوقف الحروب وتجنب ويلاتها مثل ميثاق ##كيلوج برايند## الذي يعود إلي عام 1928 وميثاق الأمم المتحدة نفسه الذي وقع في عام 1945 أخفقت جميعها في تحقيق أهدافها وإبعاد شبح الحروب عن العالم لأنها لم تتوفر علي سلطة حقيقة تمنع الدول من شن الاعتداءات, أو علي الأقل تدفعها للتفكير مليا قبل الانطلاق في مغامرات عسكرية لا تحمد عقباها, ومن هنا تنبع الحاجة, حسب هؤلاء, لتمكين محكمة الجنايات الدولية ومدها بالصلاحيات اللازمة لمقاضاة قادة الدول الذين يصدرون أوامر بشن حروب عدوانية علي دول أخري, وهي الطريقة الوحيدة في نظرهم للحد من الحروب ومنع تكرارها, لكن المشكلة تكمن في حدود هذا التوسع في الصلاحيات بحيث لن تقتصر الولاية القضائية للمحكمة علي الدول الأعضاء الذين يقدر عددهم بـ 110 دول لتمتد إلي الدول غير الأعضاء, وهو ما يعني أن المقاضاة لن تبقي محصورة في قادة هؤلاء الدول, بل تصل إلي بلدان خارج عضوية المحكمة, وسيكون من اختصاصات محكمة الجنايات الدولية متابعة أي رئيس دولة شنت بلاده عدوانا علي دولة أخري. المحكمة بهذا المعني مخولة بملاحقة قادة روسيا رغم أنها ليست عضوا في المحكمة, إذا شنت حربا علي دولة عضو مثل جورجيا, وفي السياق نفسه, قد يلاحق قادة إسرائيل رغم أنها أيضا ليست عضوا في المحكمة في حال قيامها بعمليات عسكرية علي أرض الأردن مثلا.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي رفضت إلي الآن الانضمام إلي محكمة الجنايات الدولية, بحيث يمكن تعرضها للمساءلة في أي وقت تستخدم فيه قواتها المسلحة في الخارج مثل المرات السابقة التي أقدمت فيها أمريكا علي استخدام القوة في بنما, والبوسنة وصربيا وأفغانستان والعراق.
ومع أن واشنطن لا تنظر إلي أعمالها علي أنها نوع من الاعتداء علي بلدان أخري, يجب الاعتراف أيضا بأن الولايات المتحدة كانت الوحيدة التي تملك حق تقرير ما إذا كانت أفعالها تنسجم مع القانون الدولي, أم لا, لكن في حال اكتساب المحكمة الجنائية الدولية حق مقاضاة ما تعتبره عدوانا سيكون من اختصاصاتها النظر فيما إذا كان مثلا ##مانويل نورييجا## و##سلوبودان ميلوسوفتش## قد استفزا الحرب التي شنت عليهما, أم لا.
وإذا جاء رأي المحكمة مخالفا لتقديرات الولايات المتحدة, فإنها ستبدأ في ملاحقة ما تعتبرهم مرتكبي العدوان مثل الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة, وأعضاء في الكونجرس الأمريكي, ويذكر أنه عندما تولي أوباما السلطة كان يعتزم تخفيف التوتر مع المحكمة الجنائية الدولية, لكن التداعيات المحتملة لقرار توسيع صلاحياتها دفع الإدارة الأمريكية لمعارضتها, فقد اشترطت الولايات المتحدة أن يوافق مجلس الأمن الدولي علي وجود اعتداء فعلي قبل تدخل المحكمة, ومع إصرار المحكمة علي موقفها الداعي إلي توسيع ولايتها القضائية لتشمل محاكمة حالات العدوان بين الدول تسعي واشنطن للتأثير علي الاجتماع في كامبالا للوصول إلي حل توافقي, لكن سيكون من الخطأ أن تساوم واشنطن علي هامش المؤتمر, ذلك أن المقترح رغم كونه لا يصب في مصلحة أمريكا إلا أنه أكثر سوءا بالنسبة للمحكمة نفسها, فمن الواضح أن هذه المحكمة, لن تكون قادرة علي الاضطلاع بمسئولية وضع تقديرات تحدد ما هو الاعتداء من عدمه, فلو أن روسيا مثلا هاجمت جورجيا مرة أخري هل ستوجه المحكمة التهمة فعلا لبوتين وميدفيديف؟ أم أنها ستبحث عن سبب يغنيها عن ذلك؟ وهو بالطبع ما يؤثر سلبا علي مصداقية المحكمة ومستقبلها, وبالمثل هل ستكون المحكمة قادرة علي حل المشاكل المستعصية في الشرق الأوسط, وتحديد من بدأ الاعتداء ومن وجه الضربة الأولي؟ وهل تستطيع من ناحية سياسية تبرئة إسرائيل من تهم العدوان الموجهة لها؟ لذا يمثل تخويل المحكمة الجنائية الدولية حق البت في حالات العدوان, كما تطالب بذلك, ضربة قاسمة بالنسبة لمستقبلها, ذلك أن ممارسة هذه الصلاحية يضعها في صلب الخلافات الدولية التي تتجاوز النزاعات القضائية ما سينال من مصداقيتها.
ولا شك أنه من حق إدارة أوباما استخدام الوسائل الدبلوماسية لتوضيح لماذا يتعين عدم تمديد سلطة المحكمة لتشمل الولاية القضائية علي عدوان الدول, إلا أنه عليها تجنب الصفقات الجانبية, أو الضغوط لإقناع الدول الأعضاء في المحكمة بخطورة المقترح علي مستقبلها, وبدلا من ذلك, وإذا فشل العقل في إقناع المحكمة علي واشنطن الاكتفاء باتباع الحكمة السياسية التي تقول إنه عندما يكون خصمك مصمما علي السقوط في الهاوية فقط ابتعد عن طريقه.
ستيفان رايدمايكر
مساعد سابق لوزير الخارجية الأمريكية (2002 -2006)
واشنطن بوست