يدخل الرئيس باراك أوباما ولايته الثانية بوعد سيمتحن إما صلابة عزمه أو حذاقة تملصه هو وعد إيران الذي تعهد فيه بعدم السماح للجمهورية الإسلامية الإيرانية ان تصبح دولة نووية. لم يتعهد بضربة عسكرية أو عدمها, لكن طريقة
يدخل الرئيس باراك أوباما ولايته الثانية بوعد سيمتحن إما صلابة عزمه أو حذاقة تملصه هو وعد إيران الذي تعهد فيه بعدم السماح للجمهورية الإسلامية الإيرانية ان تصبح دولة نووية. لم يتعهد بضربة عسكرية أو عدمها, لكن طريقة حكمه في الولاية الأولي تفيد بأن باراك أوباما لا يريد أدوارا عسكرية مباشرة للولايات المتحدة أينما كان. قد يكون واثقا بأن العقوبات ستؤدي الي انحسار العزم الإيراني علي امتلاك القنبلة النووية, لكن الرئيس أوباما لا بد يعرف عمق الدور الإيراني في العراق وسورية ولبنان وطموحات طهران الإقليمية. لذلك ستنصب الأنظار علي ما إذا كان الرئيس الأمريكي في ولايته الثانية سيدخل في مقايضات أو أنه سيوجه إنذارات. والأمر لا يتعلق فقط بالعلاقة الأمريكية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو بالمعادلة الثلاثية, الأمريكية – الإسرائيلية – الإيرانية, وإنما يشمل مصير سورية ومستقبل العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي. أيضا ان المسألة الإيرانية تقع في عصب العلاقة الأمريكية – الروسية وفي عمق علاقة الدول الخليجية بروسيا والصين. لعل تجربة الماضي علمت باراك أوباما ألا يكثف التوقعات. فهو دشن ولايته الأولي بوعد فلسطين فوضع حل النزاع الفلسطيني ? الإسرائيلي في طليعة التعهدات. لكنه فشل في امتحان الصلابة في الموقف, فتقهقر أمام الضغوط وتراجع أمام الانتكاسات. تأبط رئيس الولاية الأولي خطابه الشهير في القاهرة ليفتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي. أتت الثورات العربية بعد ذلك لتنصب الاسلاميين في السلطة باسم ديموقراطية الانتخابات إنما من دون وضوح التعهد بديموقراطية المساواة. وفصل الدين عن الدولة أو ديموقراطية عدم احتكار كل مفاصل السلطة. وعلي رغم ذلك, ميز الإقبال علي الإخوان المسلمين في السلطة وتصنيفهم في خانة الاعتدال ردود فعل إدارة أوباما الأولي علي أساس أن الإخوان أفضل صمام أمان ضد التطرف الإسلامي ? سلفيا كان وصفه أو من جماعة القاعدة وأمثالها. ثم أتت التطورات في سورية لتعيد شبح الخوف من عودة التيارات الإسلامية المتطرفة الي الواجهة مما أدي الي التلكؤ في اتخاذ إجراءات تفرض تنحي الرئيس بشار الأسد الذي كان الرئيس باراك أوباما دعا اليه قبل حوالي سنة, وهكذا دخلت سورية في حلقة مفرغة سببها أساسا الإطالة والمماطلة مما أسفر عن عسكرة الأزمة ودخول التيارات المتطرفة الحلبة في بطش يوازي أحيانا بطش النظام. الآن, وبعدما أعطي الناخب الأمريكي الرئيس باراك أوباما ولاية ثانية, من الطبيعي أن يتغير الرجل القاطن في البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة بعض الشيء إذ إنه لا بد أكثر ثقة بنفسه وأكثر حرية بلا القيود الانتخابية. أولوياته بالتأكيد اقتصادية وأمريكية إنما هذا لن يعفيه من التحديات العالمية. فماذا ينتظره؟ وكيف قد يتغير؟
وعد فلسطين الذي استهل به ولايته الأولي فرض علي باراك أوباما التراجع فجعله يبدو إما ضعيفا أمام الضغوط أو جاهلا أساسا للعبة السياسية ومتاهاتها. هذا التقهقر جعل الرئيس الأمريكي يبدو عاجزا من جهة لكنه أيضا أتي علي حساب الفلسطينيين الذين ما زالوا يرضخون تحت الاحتلال فيما إسرائيل تمضي ببناء المستوطنات غير الشرعية. توقيت القيادة الإسرائيلية تعزيز سياساتها الاستيطانية يتزامن مع الانتهاء من الانتخابات الرئاسية كان رسالة الي باراك أوباما عنوانها: إياك أن تجرؤ.
فلقد تجرأ الرئيس الأمريكي في مستهل ولايته الأولي علي مطالبة إسرائيل بمجرد تجميد الاستيطان, فعقد رئيس الوزراء الإسرائيلي العزم علي تلقين الرئيس أوباما درسا, فأخضعه للتقهقر متعهدا الاستمرار بما يجده في مصلحته السياسية أو العقائدية. بل أكثر, لقد فرض رئيس الوزراء الإسرائيلي علي الرئيس الأمريكي التنازل عن مطلب متواضع صنفه في خانة المصلحة الوطنية الأمريكية. هكذا دخلت العملية السياسية في سبات وتم تجميد حل الدولتين بدلا من تجميد تشييد المستوطنات. وبعدما ورط الرئيس أوباما الرئيس الفلسطيني محمود عباس في معادلة تجميد الاستيطان ثم تراجع عنها شيئا فشيئا, وقع محمود عباس في فخ الإصرار علي أن يكون تجميد الاستيطان شرطا لاستئناف المفاوضات, فدخلت المفاوضات والمستوطنات في حلقة مفرغة.
وعندما سعي محمود عباس وراء مقعد لدولة فلسطين في الأمم المتحدة, وجد نفسه في مواجهة مع الولايات المتحدة التي جندت كل ما لديها لمنع مجلس الأمن من السماح بمثل هذه الدولة. نجحت في ذلك ليس عبر استخدام الفيتو وإنما من خلال التأثير في الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمن لحجب الأصوات التسعة اللازمة لتبني أي قرار.
الرئيس الفلسطيني عاد هذه الدورة الي الجمعية العامة وطالب بدولة من دون عضوية كاملة في المنظمة الدولية. ومرة أخري, بدأ تجنيد المعارضة لهذا المسعي والمساومة من أجل تأجيل البت فيها. فالأصوات اللازمة مضمونة في الجمعية العامة, إنما الدول الغربية, مثل بريطانيا, بدأت حملة سوء التوقيت علي أساس أنه ليس في المصلحة الفلسطينية إحراج الولايات المتحدة مباشرة بعد الانتخابات وإجبارها علي حملة أمريكية ضد هذا المسعي. وعليه, نصحت الديبلوماسية البريطانية الإدارة الأمريكية ان تفعل شيئا ما تجاه السلطة الفلسطينية لإنقاذ ماء الوجه كي تتمكن من اتخاذ قرار التأجيل.
الأرجح أن تكون الصيغة قيام الرئيس الأمريكي بتوجيه دعوة للرئيس الفلسطيني لزيارة واشنطن في أقرب وقت ممكن بعد تسلم الإدارة الجديدة مهامها. إنما من غير المعروف إن كان الرئيس أوباما سيسعي وراء أكثر من الزيارة نفسها إدراكا منه ان التطورات علي الساحة الفلسطينية نفسها تتطلب منه اتخاذ مواقف تدعم حقا السلطة الفلسطينية في الوقت الذي تسترجع فيه حماس الثقة والدعم الخارجي بإضعاف متعمد للسلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض.
قيام أمير قطر بزيارة رسمية الي غزة عزز مقام قيادة حماس علي حساب قيادة السلطة الفلسطينية وشحنها بأموال ومساعدات. صحيح ان القيادة القطرية ربما أرادت تكريس انفصال حماس عن القيادة السورية التي كانت دعمتها وتبنتها, علما أن العلاقة القطرية ? السورية في أسوأ حالاتها الآن. وصحيح ان دعم قطر لـ حماس يساعد في انتشال حماس من الحضن الإيراني… إنما هناك من يري ان قطر ترعي صعود الإخوان المسلمين الي السلطة في المنطقة العربية ولذلك اتخذت هذه الخطوة. وهذه الخطوة في نهاية المطاف تضعف السلطة الفلسطينية مهما كانت هناك تبريرات تنفي تعمد ذلك.
المستبعد ? وليس المستثني قطعا ? ان يتخذ الرئيس أوباما خطوات كبري في الملف الفلسطيني ? الإسرائيلي. لعله في عمقه يتمني ان يحيي المفاوضات بصورة خلاقة تؤدي حقا الي حل النزاع والي التوصل الي حل الدولتين, لكن أصابعه احترقت في مطلع ولايته الأولي. والأرجح ألا يريد حرقها تطوعا في مطلع الولاية الثانية.
ما لن يتمكن من تجنبه ليس الملف الفلسطيني وإنما الملف الإيراني, بالذات في شقه الإسرائيلي الذي يصر علي قيام الولايات المتحدة بمنع الجمهورية الإسلامية الإيرانية من امتلاك القدرات لتصنيع السلاح النووي. ربما في ذهن باراك أوباما وسيلة ما لتنفيذ وعد إيران الذي قطعه في سابقة التعهد العلني بعدم السماح لها بأن تصبح نووية. قد يكون ذلك عبر إحياء الدبلوماسية الأوبامية القائمة علي الترغيب بالحوار المباشر والتعهد بعدم التدخل في الشأن الداخلي والقبول بدور إقليمي لملالي طهران. قد يكون من خلال تعزيز العقوبات لخنق القدرة الإيرانية علي المضي بالبرنامج النووي والمضي بتمويل التدخل الإيراني المباشر دعما للنظام في دمشق أو لـ حزب الله في لبنان. قد يكون ذلك عبر تبني السياسات الداعية الي تقزيم طموحات الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي الصعيد الإقليمي من خلال إزالة النظام الموالي لها في دمشق. وقد يكون في صفقة في ذهن باراك أوباما قوامها تجميد تخصيب اليورانيوم مقابل علاقة استثنائية مع الولايات المتحدة وصفقة استمرار النظام في دمشق ? حتي ولو تم الاتفاق علي مغادرة بشار الأسد السلطة.
ملف إيران حاضر أيضا في العلاقات مع روسيا والصين, كما ملف سورية. هامش المناورة, وهامش المفاوضات, وهامش المحادثة بين الدول الكبري سيتأثر في أعقاب الانتهاء من الانتخابات الأمريكية. الترابط بين الملفين الإيراني والسوري, ومعهما ملف حزب الله في لبنان, واضح. كذلك محورية هذه الملفات في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
واضح أيضا أن أسلوب أوباما في التعامل مع طهران للسنوات الأربع الماضية لم يجد, إذ انه فشل في تجميد تخصيب اليورانيوم كما فشل في تجميد تشييد المستوطنات الإسرائيلية. المستبعد أن يستعجل الرئيس الأميركي في توجيه ضربة عسكرية الي المواقع النووية في إيران. إنما المستبعد أيضا أن يتمكن من التملص كاملا من وعد إيران.
سيحدث نوع من تنشيط الدبلوماسية في الملفين الإيراني والسوري بحديث مختلف نوعيا. الصين بدأت حديثا مختلفا شيئا ما في الملف السوري هذا الأسبوع, والأرجح لسببين أساسيين هما: أولا, ممارسة دول عربية خليجية ضغوطا عملية علي الصين لإثبات جدية الملف السوري لديها. وثانيا, إدراك القيادة الصينية ان الوقت حان لحديث مختلف مع الولايات المتحدة تحت قيادة رئيس الولاية الثانية.
روسيا ما زالت تتمسك علنا بمواقفها المتعنتة انما هناك كلام حول التموضع لإجراء حديث من نوع جديد مع الرئيس الأمريكي للسنوات الأربع المقبلة.
الأمر عائد بدرجة كبيرة الي الرئيس باراك أوباما. سورية تحدق فيه وإيران تستدعيه. انتخابه رئيسا للولاية الثانية يفرض عليه الاختيار بين المضي بالانعزالية أو صياغة دور قيادي للولايات المتحدة عالميا. لقد مارس باراك أوباما الأول القيادة من الخلف وقد يقرر باراك أوباما الثاني ان الوقت حان للقيادة من الأمام.
نقلا عن الحياة اللندنية