الفريق الذي يعده الرئيس الأمريكي المنتخب, باراك أوباما, للشئون الخارجية والأمن القومي والتجارة والاقتصاد فريق ملم بمنطقة الخليج والشرق الأوسط من النواحي الأمنية والسياسية والنفطية ويفهم تعقيداتها ومطباتها. ما يحتاج أوباما أن يقوم به لرسم خريطة الطريق لفريقه هو أن يصر علي تنفيذ تعهداته ووعده بالتغيير وألا يسمح لشخصيات مؤسسة الحزب الديموقراطي التي برزت في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون أن تبقي متقوقعة في الفكر الذي ساد قبل عقد تقريبا بما فيه من رواسب وحقائب مهترئة. فالتغيير الذي وعد به باراك أوباما جيل الشباب الذي أتي به إلي البيت الأبيض يتزامن مع التغيير في الخريطة السياسية – الاقتصادية العالمية ومع الرغبة بانتقال عدوي التغيير إلي منطقة الخليج والشرق الأوسط. فالرئيس المنتخب ونائبه, جو بايدن, وفريقه الذي يفترض أن يشمل هيلاري كلينتون كوزيرة خارجية, والجنرال المتقاعد القائد السابق لقوات حلف شمال الأطلسي الذي أوكلت إليه مسئوليات أمنية في العراق وفي الشرق الأوسط جيم جونز كمستشار للأمن القومي, والسفير السابق لدي الأمم المتحدة وحاكم ولاية نيومكسيكو حاليا بيل ريتشاردسون كوزير تجارة, يضم شخصيات قوية ولها خبرة في الشئون الخارجية. إنما ما علي الرئيس المنتخب وفريقه أن يقوما به الآن هو إحسان قراءة ما حدث ويحدث في إطار ديناميكيات غير تلك التي كانت سائدة عندما كان الحزب الديموقراطي في السلطة. عليهم التنبه للديناميكات كي لا تسبقهم التطورات, لأن أسوأ ما يمكن أن تواجهه الإدارة المقبلة هو أن تضطر للانجرار وراء الأحداث بدلا من إمساك زمام توجيهها. فالتحديات الآتية من تلك المنطقة فيها ما يكفي من قديم علي نسق عملية السلام بين العرب وإسرائيل – وفيها جديد صعود إيران إلي مرتبة مختلفة منذ حرب العراق, فيها قديم الإرهاب المعروف وجديد إرهاب القرصنة, فيها قديم السأم وجديد الوعد بالتغيير. والمعادلة بين القديم والجديد ليست إقليمية وإنما عالمية.
لا جديد مثلا في مهاترات رئيس فنزويلا هوجو تشافيز الذي يحاول إبعاد الأنظار عن انحدار وضعه وسمعته مع شعبه من خلال مزايداته المستمرة لا سيما لجهة علاقاته مع إيران. فهو اليوم يهاجم باراك أوباما وينتقده علي قوله إن من غير المقبول أن تصنع إيران السلاح النووي, وهو يستعد لزيارة إيران قريبا لأن لدي دين تجاه الرئيس الأخ أحمدي نجاد, حسب تعبيره. الجديد هو الحدث غير المسبوق منذ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والذي تمثل هذا الأسبوع بوصول مجموعة من السفن الحربية الروسية إلي مرفأ لاغوايرا في شمال فنزويلا لإجراء مناورات مع البحرية الفنزويلية بينها السفينة النووية بطرس الأكبر والمدمرة الأميرال تشابانكينكو. وتتزامن زيارة الروسي ديمتري ميدفيديف إلي فنزويلا مع المناورات المشتركة التي لا بد أن تلفت انتباه طاقم الرئيس المنتخب وليس فقط الإدارة الحاكمة. فالعلاقة النفطية وشبه الاستراتيجية بين روسيا وفنزويلا وإيران قديمة, إنما للمناورات العسكرية المشتركة بعد جديد.
في الوقت ذاته, صعد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين, لهجته مع باراك أوباما ودعاه إلي التخلي عن الدرع الصاروخية في أوربا الشرقية محذرا من رد مناسب من موسكو. حاول استباق الإدارة الجديدة بتخويفها قائلا نأمل أن تكون القيادة الأمريكية الجديدة بناءة أكثر ومسئولة وبعيدة النظر, من الإدارة السابقة التي تأزمت معها العلاقات بسبب النزاع المسلح بين روسيا وجورجيا وبسبب الدرع الصاروخي. وفي الوقت ذاته, ترك بوتين رئيسه ميدفيديف ووزير خارجيته سيرجي لافروف ليرطبا الأجواء قليلا بتلميحهما الي استعداد موسكو للرد بالمقابل بالتخلي عن نشر صواريخ في كاليننجراد الواقعة بين بولندة وليتوانيا للتصدي لمشروع الدرع الصاروخي الأمريكية, وذلك بهدف التراجع عن المواجهة مع الولايات المتحدة بعد تأزم العلاقات.
هذه المؤشرات المتعددة الآتية من روسيا وفنزويلا تأتي في زمن الأزمة الاقتصادية وانهيار أسعار النفط بصورة تؤذي الاقتصاد الروسي والفنزويلي والإيراني, كل بدرجات مختلفة.
إبرة البوصلة الرئيسية في رسم التوجهات ورسم العلاقات في هذه الفترة هي الإبرة الاقتصادية التي تعصف بدول وترميها في رياح لم تحسب حسابها, مثل إيران, وتضع دولا أخري في طليعة الدول القيادية إقليميا وعالميا, مثل السعودية التي قدرت موازنتها علي أساس 40 دولارا لبرميل النفط.
هبوط أسعار النفط وانعكاسه علي الموازنة الإيرانية عالج إلي حد ما الأزمة الإيرانية الناتجة عن تطلعاتها النووية وطموحاتها نحو الهيمنة الإقليمية وفرض نموذج حكمها في أكثر من دولة عربية. وبسبب انحسار القدرات المالية الإيرانية, قد تصبح أوراق أوباما أقوي في تعاطيه مع إيران بحكم الصدفة الاقتصادية وليس بسبب أي تغيير في الفكر والسياسة الإيرانيين.
وكمثال, فاللغة التي خاطب بها ملالي طهران ورئيسها محمود أحمدي نجاد زائرهم الرئيس اللبناني ميشال سليمان هذا الأسبوع تبين قرارهم في رفض الاعتراف باستقلال هذا البلد وحقه في أن تكون له دولة ذات سيادة قادرة وحدها علي بسط سلطتها في جميع أنحاء البلاد. القادة الإيرانيون اختزلوا لبنان إلي كلمة مقاومة بمحو عملي لكلمة السيادة, وهم الذين يدفقون السلاح إلي حزب الله الذي تطالب القرارات الدولية بتجريده منه وتطالب إيران بالكف عن خرق حظر السلاح إليه. فلو كان الهدف الإيراني صادقا في إزالة الاحتلال الإسرائيلي عن الأراضي العربية, فإن أمامه حليفه السوري الذي له أراض تحتلها إسرائيل والذي يمكن له شن المقاومة عبر حدوده معها. فإذا كان فريق باراك أوباما جاهزا حقا للتفكير الجديد في كيفية التعاطي مع إيران, فواجبه أن ينظر إلي إيران من منظور أدوارها الإقليمية وليس فقط من منظار طموحاتها النووية. وكل من يترفع عن تناول ملف لبنان باعتباره – حسب التفكير التقليدي في الحزب الديموقراطي – أقل أهمية من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية كسورية وإيران – إنما يكون جاهلا حقا ورافضا للخروج من التفكير القديم.
تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك هذا الأسبوع التي هددت بتدمير عمق لبنان ردا علي امتلاك حزب الله تلك الترسانة الضخمة, إنما هو استدعاء لحرب أخري بين إسرائيل و حزب الله علي حساب لبنان وشعبه وبنيته التحتية. كلامه الذي يدخل في خانة شق فجوة بين سورية وإيران أو بين سورية وحزب الله, إنما يعكس تزاوج النفاق والازدواجية. فهو صاحب نظرية التضحية بلبنان وإعادته إلي حظيرة سورية وإسقاط المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية بإدعاء سلخ سورية عن إيران لأهداف استراتيجية, وفي الوقت ذاته هو ينفذ عمليا ما يريده وهو الالتهاء بكلام المفاوضات علي المسار السوري – الإسرائيلي بهدف منع أي تقدم علي المسار الفلسطيني – الإسرائيلي.
درجت العادة بين صفوف الحلقة التي أحاطت بالمرشح للرئاسة باراك أوباما أن اشترت فكرة اعطاء مسار المفاوضات بين سورية وإسرائيل, عبر تركيا, الأولوية بأي ثمن كان. علي أولئك الكف عن هذه الفكرة الخطيرة لأن لا قفز علي معالجة المسألة الفلسطينية, ولا فسخ لسورية عن إيران, ولأن المفاوضات السورية – الإسرائيلية يجب ألا تستخدم لفك العزلة عن دمشق. فإذا كانت دمشق صادقة حقا في فتح صفحة جديدة مع لبنان تحترم عبرها استقلاله وسيادته وتكف عن استخدامه ساحة للفصائل الفلسطينية المسلحة التي تأخذ تعليماتها من دمشق, أهلا بمثل هذا التطور لو حدث. إنما التجربة السورية مع لبنان لا تبشر بمثل هذه النقلة النوعية لأن دمشق علي اقتناع تام بأن لبنان يبقي عمقها الاستراتيجي. أما إذا كانت عدلت فكرها ونهجها بسبب التطورات, فيجدر بإدارة أوباما المقبلة أن تحصل علي ضمانات واضحة بهذا الاتجاه.
إلي حين ذلك, يبقي لبنان الوسيلة لفك العزلة الدولية عن سورية, وليس شبح المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل. فالقرارات الدولية المعنية بلبنان عنوانها الفعلي هو سورية, إذ أن هذه القرارات طالبت دمشق بالكف عن التدخل في لبنان, والكف عن تمرير السلاح إلي الميليشيات فيه ضد الجيش والدولة, والكف عن رفض ترسيم الحدود معه, والكف عن محاولة تجميد المحكمة الدولية. فإذا لم تكن النوايا السورية صادقة مع لبنان, تبقي سورية تحت المراقبة مهما تهيأ لها ولغيرها أنها تغلبت علي الضغوط وأنها في أمان بمجرد انتخاب أوباما.
كذلك الأمر مع إيران, فلبنان ساحة امتحان لها وليس فقط العراق, حيث المعادلة مختلفة تماما. فـ حزب الله قد يصبح عبئا علي طهران, لا سيما إذا فتحت صفحة جديدة مع إدارة باراك أوباما, أو, إذا وقعت حرب أخري بين الحزب وإسرائيل. ففي الحالة الأولي هو عقبة, وفي الحالة الثانية هو كلفة غالية في زمن شد الأحزمة.
لذلك, وعندما يبدأ التفاوض بين إدارة باراك أوباما وحكومة طهران, ستكون الفرصة مؤاتية جدا لتقديم فريق باراك أوباما السلم إلي طهران لتلتقط أيادي حزب الله وهو يتسلق هبوطا. فالوسيلة الوحيدة لمعالجة ما آل اليه حزب الله اليوم هي أن يتخذ هو المبادرة ويعلن اعتزامه أن يتحول من منظمة عسكرية موازية للجيش, إلي جزء من الجيش والدولة بمكانة مرموقة كحزب له حقه ومكانته في الحكم السياسي في لبنان.
المطلوب هو أن تكون استراتيجية فريق أوباما شمولية, بحيث لا تفكر بإيران بمعزل عن العراق, أو بسورية بمعزل عن لبنان, أو بإسرائيل بمعزل عن فلسطين, وغير ذلك. فهناك أكثر من نافذة مفتوحة علي فرص سياسات جديدة, منها النافذة الاقتصادية ونافذة صنع السلام العربي – الإسرائيلي, التي ستساعد جدا في تحييد التذرع بالقضية الفلسطينية لشن الإرهاب والتطرف ضد الولايات المتحدة وضد قوي الاعتدال.
فريق أوباما قادر علي صياغة سياسة متكاملة قادرة علي التغيير. ما يلزمه هو الجرأة علي الطلاق من أنماط السياسات التقليدية التي رافقت إدارة كلينتون الديموقراطية السابقة
نقلا عن جريدة الحياة