إنها تبدو مشكلة ولكن حلها يسير…
إن الرب يسوع ركب علي الأتان أولا,ثم تركها وركب الجحش بعد ذلك,ودخل أورشليم وهو راكب علي الجحش.
ويبقي مع ذلك حاجتنا إلي تفسير هذا التصرف من جانب رب المجد…أما كان يكفي أن يركب إحدي الدابتين؟
الواضح من الأناجيل الثلاثة الأخري:أي الإنجيل للقديس مرقس والإنجيل للقديس لوقا والإنجيل للقديس يوحنا أن السيد الرب عندما دخل إلي أورشليم ,كان يمتطي صهوة الجحش..ولما كان الإنجيل للقديس متي يروي أنه ركب علي الأتان وعلي الجحش إذ يقول صراحةوأركباه عليهمامتي21:7فلا يبقي أمامنا إلا أنه ركب علي الأتان أولا وسار بها مسافة ما,ثم نزل من عليها,وركب علي الجحش ,ودخل وهو راكب علي الجحش إلي أورشليم.
ولكن ما مغزي هذا,وما معناه؟
إن المتتبع لأحداث العهد الجديد يتبين أن رب المجد سبق فأعلن أنهإلي خاصته جاء,وخاصته لم تقبله,أما كل الذين قبلوه فأعطاهم السلطان لأن يكونوا أبناء الله.أولئك هم المؤمنون باسمهيوحنا1:12,11وإذن كان هناك رفض من جانب الأمة الإسرائيلية التي جاء إليها,ومنها,وكان هذا الرفض من جانبها بينة علي عدم استحقاقها للنعمة التي أنعم بها عليها,وكان هذا تبريرا كافيا لعناية الله أن يفتح باب الخلاص للأمم من غير اليهود,وأن يضم إلي حظيرته الأمم كما قال:ولي خراف أخري ليست من هذه الحظيرة ,ينبغي أن أجيء بها أيضا,فتسمع صوتي ويكون ثمة رعية واحدة وراع واحديوحنا 10:16.
إن الأتان ترمز إلي الأمة اليهودية وكما تمرست الأتان علي الركوب,تمرست الأمة اليهودية علي نير الشريعة والأنبياء,وقد قال عنهم الوحي الإلهي علي فم القديس بولس الرسول هم بنو إسرائيل,ولهم التبني والمجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود ومنهم الآباء,ومنهم جاء المسيح في الجسد وهو الكائن علي كل شيء هو الله تبارك اسمه إلي أبد الدهور رومية9:5,4.
وإذ تمرد اليهود علي مخلص العالم,ورفضوا دعوته وتآمروا علي صاحب الكرم وقالوا هلموا نقتله ونستولي علي ميراثهفقرر صاحب الكرم أنيهلك أولئك الأشرار شر هلاك,ثم يؤجر الكرم لكرامين آخرين يعطونه الثمار في أوقاتهامتي21:41,38.وقال يندب أورشليم وأهلهاكم من مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا,هوذا بيتكم يترك لكم خرابالوقا13:35,34.
وإذن فقد كان نزول المسيح الملك من علي الأتان بعد أن ركبها أولا,رمزا لرفضه الأمة الإسرائيلية عقابا علي تمردها لأنه وقد خلق الإنسان حرا ,ما كان يمكن أن يفرض عليها أن تقبله علي الرغم منها فتركها وشأنها تجني ثمر عملها ,وتحصد نتيجة فعلها…ثم لقد كان رفضها هي له,تبريرا له ليفتح الباب للأمم غير اليهودية ممن قبلوا نيره الهين وخضعوا لحمله الحلو والخفيفمتي11:30.
وهنا نذكر أن الجحش يرمز إلي الأمم اليهودية,فهو في طياشته يرمز إلي طياشة الأمم غير اليهودية…وعلي عكس اليهود ,لم يكن للأمم غير اليهودية شريعة وأنبياء وعهود كما كان لليهود..فكانوا في طياشتهم من جهة,وفي جهلهم بشريعة السماء والأنبياء من جهة أخري..أشبه بالجحش الذيلم يركبه أحد من قبلمرقس11:2,لوقا19-:30.
ولا غرابة أن يشير الحيوان إلي الإنسان,أو يرمز البهيم أو الدابة إلي الناس,يهودا كانوا أو غير يهو,د.فقد قال الرب مرةالثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه.إما إسرائيل فلا يعرف,شعبي لايفهمإشعياء1:3.
وقال النبي داودصرت كالبهيمة عندكمزمور72:22وقال أيضاالإنسان إذا كان في كرامة ولم يفهم,يشبه البهائم التي لامعرفة لهامزمور48:20.ثم إن الجحش كان نجسا في نظر اليهود,لأنه حسب شريعتهم غير مشقوق الظلفاللاويين11:4-8,التثنية14:8,7.
ومن هذه الوجهة أيضا يرمز الجحش إلي الأمم غير اليهودية لأنهم أيضا في نظر اليهود نجسون.
كان إذن رفض اليهود لمخلصنا تبريرا لفتح الطريق أمام الأمم غير اليهودية لخلاصهم وكما يقول الوحي الإلهي علي فم الرسول القديس بولس للأمم غير اليهوديةإنكم عصيتم الله قبلا,ولكن نلتم الآن رحمة لعصيان هؤلاءاليهودرومية11:30.
ولعل المسيح مخلصنا قصد بركوبه الأتان والجحش معا الواحد بعد الآخر أن يعلن رغبته في أن يضم اليهود والأمم غير اليهودية معا في طاعته.وإن يدخلهم تحت نير شريعته وأن يجمع بينهم في شخصه بعد أن كانت العداوة شديدة بينهم لعله أراد أن يعلن محبته للجميع كأب وكراعكراع يرعي قطيعه,بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعاتإشعياء40:11.
ولعله بهذا يعلن أنه بمجيئه وفي شخصه قد حصلت المصالحة وصار السلام بين اليهود والأمم غير اليهودية وتم ما أنبأ به إشعياء عن عهد المسيحفيسكن الذئب مع الحمل,ويربض النمر مع الجدي,ويكون العجل والشبل والمسمن معا,وصبي صغير يسوقها والبقرة والدبة ترعيان معا,ويربض أولادهما معا والأسد يأكل التبن كالبقر,ويلعب الرضيع علي جحر الأفعي,ويمد الفطيم يده علي جحر الأفعوان لايسيئون ولايفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتليء من معرفة الرب كما تغمر المياه البحر,ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسيء القائم راية للشعوب إياه تترجي الأمم,ويكون مثواه مجيداإشعياء11:6-10.
وهنا جامعية الكنيسة المسيحية.لم تعد الكنيسة عنصرية كما كان الحال في المفهوم اليهودي حيث كان اليهودي يصلي قائلاأشكرك اللهم لأنك خلقتني يهوديا لا أمميا.
وإنما صار المسيح يجمع تحت لوائه اليهود والأمم غير اليهودية وأصبحت الكنيسة المسيحية واحدة جامعةتضم اليهود وغير اليهود,كل الشعوب علي اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وبيئاتهم,وصارت تضم أبناء الله المتفرقين إلي وحدة واحدةيوحنا 11:52ولم تعد هناك امتيازات لليهود علي غير اليهود,بل صار الجميع واحدا في المسيح يسوعولا فرق الآن بين يهودي وغير يهودي,بين عبد وحر,بين رجل وامرأة,لأنكم أنتم جميعا واحد في المسيح يسوعغلاطية3:28.
ملك حقا لكنه فقير:
دخل المسيح أورشليم كملك,لكنه ملك روحاني سماوي,ودخل علي حماره دخولا متواضعا.ولم يكن الحمار ملكا له,وإنما كان حمارا مستعارا من آخرين وهذا علامة الفقر التام.وهذا عزاء للفقراء ومشاركة للمساكين..إنه ولد فقيرا..ولم يجد له في الخان مكانا فاستقر في أرضنا في مذود للحيوانلوقا 2:16,12.أي لم ينم علي فراش ناعم يلائم طفولته الغضة وإنما استلقي علي القش الخشن وعندما كبر لم يكن لهموضع يسند إليه رأسه متي8:20 وعندما طالبه الذين يجمعون الجزية لم يكن لديه درهمان فأرسل تلميذه بطرس ليلقي صنارته في البحر,فيصيد سمكة يجد في فيها ما يوفي به الجزيةمتي17:24-27هذه صورة الفقر المدقع التي عاشها الملك الآتي إلي العالم إنه من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تغتنوا أنتم بفقرهالرسالة الثانية إلي كورنثوس 8:9.
ولما ركب علي الأتان والجحش لم يجدوا له سرجا أو سروجا يشدوه عليه أو عليهما أو علي أحدهماووضعا عليهما ثيابهما وأركباهمتي21:7,مرقس11:7,لوقا19:35.وإذا أراد سائر التلاميذ والجموع التي تقدمت موكبه والتي تبعته ,أن تعبر عن إجلالها وتكريمها لم يفرشوا طريقه بسجادات أو طنافس أو بسط كما يفعلون مع الملوكوإنما بسط جمع عظيم جدا ثيابهم في الطريق,وقطع آخرون أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق متي21:8, مرقس11:8, لوقا19:36.
تلك كانت طريق الملك الآتي باسم الرب مفروشة لا بالسجادات والطنافس والبسط,بل بثياب التلاميذ والجموع وبأغصان الشجر.فماذا كانت الأعلام والبيارق والرايات في موكب الملك السماوي؟كانت أغصان الزيتون وسعف النخل.
ولماذا أغصان الزيتون,وسعف النخل؟
لم تكن أعلامه من صنع الناس,وإنما كانت من الطبيعة.هو لم يرد أن يرهق الناس بكثرة الأكلاف كما يصنع الناس في مواكب الملوك.أعلامه من صنع الطبيعة,من خلق الله من عمله هو,لأنه هو ابن الله وكلمة الله,الذي به خلق العالمينالعبرانيين1:2.
به كان كل شيء,وبغيره لم يكن شيء مما كانيوحنا1:3.وكان العالم بهيوحنا1:10.فإن به خلق كل شيء مما في السموات ومما في الأرض,وما يري وما لايري..كل شيء خلق به ولهكولوسي1:16.
عندما ولد,ولد في أحضان الطبيعة,في مذود للحيوان,بين مخلوقات وادعة هادئة,لعلها هتفت له بخوارها وثغائها.وعاش حياته علي الأرض كلها يتنقل في أحضان الطبيعة بين الوديان,والقفار والجبال,يسير مشيا علي الأقدام في الأرض أو علي الماء,وأكثر تعليمه كان وهو سائر في الطريق,أو في البيداء,أو من فوق جبل,أو علي ظهر سفينة واقفة علي شاطيء بحر الجليل..وأمثلته كان يتخذها من الطبيعة..من الزرع والحصاد حبا أو نباتا أو شجرا.. من حبة الخردل إلي الكرمة والتينة والجميزة ومن زنابق الحقل والزهر..ومن فراخ الغربان والعصافير والحمام وطيور السماء..ومن ظواهر الطبيعة..الهواء والرياح والسحاب والأمطار ..والأنهار والجبال ..فلا عجب أن تكون أعلامه في موكبه الملكي من الطبيعة أيضا..من أغصان الشجر,ومن سعف النخل.
ولماذا أغصان الزيتون؟
ليس لأنها فقط من إنتاج الطبيعة محليا ,ولكن لأنها رمز السلام..وهو موضوع رسالته..وجوهر دعوته.
وأغصان الزيتون تذكرنا بحمامة نوح التي أرسلها من فلكه بعد الطوفان فعادت إليه عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمهافعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرضالتكوين8:11.
وصارت أغصان الزيتون منذ ذلك الوقت رمزا إلي السلام.
ورسالة المسيح جوهرها سلام..سلام بين الله والإنسان,وسلام بين الناس بعضهم مع بعض..وسلام بين الإنسان ونفسه..لذلك هتفت الملائكة يوم ميلاده قائلة:المجد لله في الأعالي,وعلي الأرض السلاملوقا2:14وقال عنه النبي إشعياءلأنه يولد لنا ولد,ونعطي ابنا وتكون الرياسة علي كتفه,ويدعي اسمه عجيبا مشيرا ,إلها قديرا أبا الأبد,رئيس السلام.لنمو رياسته وللسلام لا نهاية,علي عرش داود ومملكته ليقرها ويوطدها بالحق والبرإشعياء 9:7,6.وقال عنه الرسوللأنه هو سلامنا هو الذي جعل الاثنين واحداأفسس2:14.
ولماذا سعف النخل؟
دخل المسيح أورشليم راكبا جحشا رمزا لتواتضعه وأنه ملك السلام ,ولذلك حملوا في موكبه أغصان الزيتون,ولكنهم حملوا أيضا سعف النخل,قال الإنجيل:وفي الغد سمعه الجمع العظيم الذي جاء للعيد أن يسوع قادم إلي أورشليم,فأخذوا سعف النخل ,وخرجوا لاستقباله,وهم يهتفون قائلين:هوشعنا!تبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل!يوحنا12:13,12.
إذ كانت أغصان الزيتون ترمز إلي دعوته إلي السلام من حيث إن المسيح هو ملك السلام,فإن سعف النخل يرمز إلي سيرة المسيح وسيرة الذين يتبعونه في طريق السماء.فسعف النخل-ويؤخذ عادة من قلب النخلة-يتميز ببياض لونه ونصاعته وفي بياضه يرمز إلي طهارة المسيح ونقاوته,في قلبه النقي وسيرته الطاهرة.ليس في السعف ما يشين نقاءه وصفاء لونه.وكذلك المسيحلم يصنع خطيئة ولم يوجد في فمه مكررسالة القديس بطرس الأولي2:22,بلولم يعرف الخطيئةالرسالة الثانية إلي كورنثوس5:21,وقد قال جهرامن منكم يستطيع أن يثبت علي خطيئة؟يوحنا8:46.
ثم إن سعف النخل يتميز أيضا باستقامته.في هذا يرمز إلي المسيح ملك السلام وإلي استقامته في سيرته ومقاصده وتعليمه وفي طرقهفإن طرق الرب مستقيمة هوشع 14: 9.
وقد شهد عنه الفريسيون وتلاميذهم معه الهيرودوسيون قائلين: يا معلم نحن نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد, لأنك لا تحابي وجه إنسانمتي22:16,15.
وكما يتميز سعف النخل باستقامته يتميز أيضا بحدته وهذه الحدة في جوانب السعف,وفي طرفه المدبب الدقيق,ترمز إلي دقة التعليم المسيحي وتدقيق السيرة المسيحية في التزامها بالمشيئة الإلهية بغير عوج أو انحراف,وبعبارة أخري أنها تشير إلي أرثوذكسية الإيمان المسيحي وأرثوذكسية السيرة المسيحية معا,وهو ما تقتضيه الأمانة التامة للسائرين في طريق المسيح,وعدم التساهل في الحق الإلهي,وكما يقول الرب يسوع في سفر الرؤيافكن أمينا حتي الموت.وأنا أعطيك إكليل الحياةسفر الجليان-الرؤيا2:10.وكما يقول أيضا بفمه الطاهر إنما تمسكوا بما هو لديكم إلي أن أجيءالجليان-الرؤيا2:25.
إن أغصان الزيتون وسعف النخل يرمزان إلي فضيلتين عظيمتين تكمل إحداهما الأخري,أو قل إنهما تتواكبان معا في خط واحد:فضيلة المسالمة والعمل علي إيجاد السلام.والسعي إلي صنع السلام في كافة المجالات الإلهية والإنسانية الروحية والاجتماعية,ثم الفضيلة الثانية هي استقامة السيرة,واستقامة القصد,واستقامة التعليم.
وإذا كان السلام يقتضي التسامح في الحق الخاص,فإن الاستقامة تقتضي التدقيق وعدم التساهل في الحق الإلهي والحق العام,وحقوق الآخرين.وإذا كان السلام ينطوي علي الرقة والرحمة,فإن الاستقامة تنطوي علي الحزم والدقة والعدل.
وإذا كان المسيح الملك أعلامه أغصان الزيتون وسعوف النخل ففيه له المجد التقت الرحمة بالعدل في وحدة متكاملة من غير تعارض أو تنافر أو تناقض,لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدا,اليهود وغير اليهودأفسس2:14الرحمة والحق تلاقيا.العدل والسلام تلاثما.الحق من الأرض نبت,والعدل من السماء تطلعمزمور84:11,10.
هذا هو المسيح,بل هذا أيضا هو المسيحي السائر علي درب المسيح:يجمع في حياته وسيرته وتعليمه,بين الرحمة والعدل معا,بين السلام والاستقامة معا,يجمع بين التسامح في حقه الخاص,مع التشدد في حق الله وحق القريب,يقرن اللطف في غير ضعف مع الحزم في غير عنف…يجمع في شخصه الاثنين معا دون أن يقع في تناقض.يسير نظرا وعملا في طريق السلام مع الاستقامة والتدقيق في انسجام ,وتكامل واتزان وتوازن.