المصائب لا تأتي فرادي .. نعم إذ تجتمع فتصب جام المآسي سويا علي رأس بعض البشر .. وتختلف ردود أفعالهم بدءا من الاحتمال مرورا بالسخط والتذمر انتهاء إلي التخلي عن المسئولية .. وقليلون هم من يصمدون للمنتهي ..قليلون هم من يختارون طوعا وبملء إرادتهم تحدي مصائبهم و الاستمرار مهما كلفهم ذلك من معاناة وآلام لا يحتملها كثيرون .. ضمن هؤلاء بطل قصة اليوم .. إنه رجل في العقد الخامس من عمره يعمل موظفا بهيئة الآثار .. مريض بقصور في الشريان التاجي .. متزوج و لديه أربعة إبناء أكبرهم عمره 23 سنة .. إنه إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معان.. كافح وصمد مع والدته العجوز في مرضها و هي الآن طريحة الفراش بعد أن أصابتها عدة جلطات بالمخ أدت إلي شلل نصفي وتستخدم علاجا شهريا تكلفته تفوق الـ 400 جنيه.
قرع باب مكتبي .. وإذا برجل يبدو الشقاء وقد أطاح بمعالم وجهه .. و كللت الهالات السوداء عينيه .. ممسكا بمظروف كبير لملم فيه كل أوراقه ليثبت مدي احتياجه .. جلس يقص علي حكايته ويقول :
لم تمنحني الحياة سوي الأسرة هذه الأسرة التي أنعم الله بها علي لأعرف كم هو جميل أن نسعد بوجودنا سويا .. لكن تحولت النعمة إلي حمل كاد يسحقني .. فوالدتي مريصة ..أبيت الليالي جوارها فهي لا تتحرك نهائيا من مكانها لا تقوي علي الوقوف للذهاب لقضاء حاجتها كسائر الناس .. أما أخي- 37 سنة- فبعدأن عاصر حرب العراق عاد إلي مصر مريضا نفسيا غير مدرك لأي أمر يدور من حوله ..احتملت المعاناة شاكرا الله علي ما أصابني .. كان ابني الأكبر يساعدني علي العيش وشراء الأدوية وتمضي الحياة .
ثم جاءت ثورة 25 يناير وشعرنا جميعا أن لنا تارا لدي هذا النظام الذي ثارت جموع الشعب المصري ضده لخلعه ثم التخلص التلقائي من الفقر والبطالة ونوال حقوقنا ممن نهبوا أموالنا وتركونا عرايا ومرضي وجوعي في طريق مظلم .. سرقوا منا الأمل حتي أن نحيا أصحاء … خرجنا من ديارنا طفنا مع الطافين .. لففنا شوراع مصر مع الباحثين عن الأمان وفي التاسع والعشرين من شهر يناير الماضي وقفنا مع الواقفين أمام وزارة الداخلية .. لم نكن نعلم أن الوحشية التي يمارسها الأمن ستقضي علي المتبقي من أمل لدينا .. وقف ولدي صائحا هاتفا ضد رموز الظلم والفساد ولدي الذي هو عكازي في الحياة .. فما كان إلا أن أصابته رصاصات الغدر وأحمد الله أنها لم تكن سوي رصاصات مطاطية فدخل جسده أكثر من 75 رصاصة .. معظمها في ساقه وقدمه .. أتت علي حركته وكادت أن تصيبه بالشلل ..أجرينا عدة جراحات وأفقنا علي كارثة فولدي لن يستطيع أن يعود طبيعيا كما كان .. فقد قدرته علي القيادة وبالتالي فقد مصدر رزقه ومساعدته للأسرة التي كنا نعولها سويا ..منذ هذا الحين وأنا أبحث عمن يساعدنا علي العيش ولو بالكاد فعلاج والدتي يكلفنا الكثير ولا أعلم من أين لي أن آتي به .. هل أتركها لمجرد أنها عجوز تتألم حتي توافيها المنية و إن فعلت فأين أذهب من ضميري ومسئوليتي أمام الله تجاه من حملتني وأرضعتني وكانت سبب وجودي بهذه الحياة أين أذهب من المستقبل الذي يبدو لعيني غارقا في الظلام الدامس لم أجد سبيلا إلا أن ألجأ اليكم ربما أجد لديكم راحتي بعد أن أعياني البحث وأضناني الألم .
رد المحررة:
انطلقت وطني تدرس حالة هذا الرجل فذهب مندوبنا إليه.. دخل منزله ليجد أسرة حقا حالتها لا تسمح ولا بالقليل للعيش .. فالمرأة العجوز ترقد علي فراشها بلا حركة حتي تقرح جسدها كله إذ لا يملكون حتي ثمن المرتبة الهوائية التي يجب أن ينام فوقها من هم في مثل حالتها .. وأحضرنا المرتبة علي الفور .. ثم اشترينا الأدوية لمدة شهرين .. لكن الأمر صعب جدا .. و الحال مستمر ولا نعلم متي سينصلح .. كان هذا الرجل بارا بوالدته الأرملة فلم يتخل عنها قط لكن الأقدار هي التي تخلت عنه .. ومن هنا من منبر افتح قلبك .. نطلقها دعوة لكل كارهي التخلي .. لكل الأيادي المبسوطة بالخير .. لكل من ساهم في ثورة مصر ثم اعتلي منصبا ليحقق ما حلمنا به جميعا علي مدار العقود الفائتة .. انظروا إلي مأساة هذا الرجل وولده الشاب الذي لم يكن له أي ذنب سوي أنه شارك كغيره دون أن يعلم أن نتيجة مشاركته هي ضريبة ربما دفع كثيرون حياتهم فداء لها لكنه شارك دون أن يكون له مطلب سوي العدالة الاجتماعية التي افتقدتها أسرته في أبسط الأشياء وهي العلاج والمأكل .. إلي رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف .. إلي سيادة المشير طنطاوي استغاثة من مصري لم يعرف سوي التضيحة من أجل أسرته .. وأخص في الاستغاثة سيادة المشير إذ أن الآم العجوز كان زوجها عريفا في الجيش المصري ورغم ذلك لم تستطع العلاج في مستشفيات القوات المسلحة التي أخبرها المسئولون أنها تخص علاج الضباط فقط .
صرخة ربما تأخرت أشهر طويلة لكنها ما زالت تدوي في جنبات بيت مصري شارك في صنع الثورة .. هلموا أسكتوها بالأمل هلموا نداوي الاحتياج بالأيادي الممدوة بالحب هلموا ننزل إلي الشوارع والمنازل والأحياء الشعبية لنعرف من يحتاج ولم يتمكن من العلم بالوسيلة التي يصل بها لسداد احتياجه .. هلموا من الأبراج العالية إلي البسطاء عزيزي الانفس الذين لا يبحثون عن التعويضات والمزايدات والعراك من أجل رد ما ذهب أدراج الرياح.