ستون عاما مرت علي نكبة الفلسطينين . ستون عاما من النواح والبكاء علي الأطلال . ستون عاما من المؤتمرات والندوات . ستون عاما من الأغاني الوطنية ولبس الكوفية علي أكتاف النساء و رؤوس الرجال كرمز لهوية مهددة بالغياب. ستون عاما بما فيها من حروب هوجاء غير منظمة وهزائم ونكبات ونكسات . ستون عاما من مديح ( الظل العالي ) ومديح كل من يقدم نفسه رمزا للقضية . ستون عاما من ” الفري رايد ” (الركوب ببلاش), ولا ثمن ندفعه من اجل قضية ندعي جميعنا بأننا حراسها.
الفلسطينيون اليوم أحوج ما يمكن تسميته بالـ HARD LOVE, أي الحب الصارم المكاشف الذي لا يقبل المجاملة. يحتاج الفلسطينيون إلي النقد البناء والحسم في القول والمواجهة . ومن هذا المنطلق, لدي سؤالان أتوجه بهما إلي القيادة الفلسطينية بشقيها, السلطة الفلسطينية المتمثلة في الرئيس محمود عباس وقيادة حماس المتمثلة باسماعيل هنية وخالد مشعل.
السؤال الأول : متي ينتقل الفلسطينيون من مراهقة الثورة إلي رشد الدولة؟ والسؤال الثاني : إذا كانت هناك نية لقيام دولة فلسطين في المنطقة, فهل يستطيع الفلسطينيون أن يؤكدوا للمجتمع الدولي وحتي لدول الجوار بأن دولة فلسطين ستكون تعزيزا للأمن القومي لا إضعافا له؟
في إجابة القيادة الفلسطينية علي هذين السؤالين تطمينات للداخل والخارج تساعد علي تحديد مواقف إيجابية من قيام الدولة الفلسطينية .
السؤال الأول المتعلق بالانتقال من مراهقة الثورة إلي رشد الدولة, الهدف منه هو معرفة المجتمع الدولي إلي أي مدي يستطيع الفلسطينيون حكم أنفسهم بأنفسهم, وإلي أي مدي يستطيع الفلسطينيون حكم أنفسهم بأنفسهم , وإلي أي مدي يمكن أن تكون القيادة الفلسطينية مسئولة, كما هو حال معظم حكومات العالم, عن شعبها وتطلعاته ومتطلباته وتأمين العيش الكريم له. المجتمع الدولي اليوم, لديه شك كبير في قدرة الفلسطينيين علي الانتقال من مراهقة الثورة إلي رشد الدولة. ولعل حالة غزة هي مشكلة متراكمة ومركبة. ولا أتحدث هنا عن انقلاب حماس أو حتي عن القتل المجاني, وإنما أتحدث عن الفشل الكبير في إدارة شئون غزة.
غزة ميناء بحري بمساحة صغيرة, مثله مثل سنغافورة أو البحرين. ولكن سنغافورة, رغم صغرها, تحولت بفضل حكومة ذكية أحسنت إدارتها من ميناء صغير إلي واحدة من أهم الدول في آسيا.ومملكة البحرين دولة لها علاقاتها وتحالفاتها مع كبريات دول العالم.
النموذج الذي كان من الممكن أن يطمح الفلسطينيون إليه في غزة, هو نموذج سنغافورة, فتكون غزة ميناء ناجحا ذا اقتصاد قوي, وقادرا علي توفير حياة مقبولة لأبناء القطاع. ولكن بدلا من أن يذهب الفلسطينيون بغزة إلي نموذج سنغافورة, ذهبوا بها إلي نموذج تورا بورا ! حولوا غزة إلي جزء من أفغانستان, إسلاميون متشددون وأسلحة و صواريخ . فشل القيادة الفلسطينية في غزة, سببه الأساسي أنها مازالت تعيش مراهقة الثورة ولا تتصرف كمشروع دولة قادرة علي إدارة شئون شعبها.
هذه المراهقة هي التي أدت إلي محاولات اجتياح الحدود مع مصر, وهذه المراهقة هي التي تؤدي إلي إطلاق صاروخ هنا وصاروخ هناك ويدفع البشر العاديون في غزة, المتعبون أصلا من الحصار والجوع ثمنها. اللوم يكون علي إسرائيل التي تحاصر غزة, لا أحد يبرئ إسرائيل من المسئولية, ولكنها في النهاية دولة بعتاد وجيوش فهل كانت حماس تتوقع أن ترميها إسرائيل بالورود إذا ما رمتها حماس بالصواريخ؟ وتلام مصر التي تضبط حدودها كما تفعل كل الدول .. لا لوم أبدا علي قيادة حماس, المهم أن إسماعيل هنية يبقي زعيما علي غزة حتي لو فني ناسها ..ما دام هنية قائدا فغزة منتصرة. هذا المفهوم غير الإنساني المقلوب للنصر لا يقتصر علي الفلسطينيين فقط, فهزيمة يونية 1967 لم تكن هزيمة لأن جمال عبد الناصر بقي زعيما بعد الحرب, وهزائم صدام لم تكن هزائم لأن صدام بقي رئيسا للعراق, وهزيمة لبنان التي دمرت البنية التحتية للبلد لم تكن هزيمة لأن حسن نصر الله بقي زعيما للمقاومة.
حياة البشر ليست مهمة, المهم والأهم بقاء الزعماء. أما السؤال الثاني المتعلق بكون دولة فلسطين الجديدة ستكون إضافة وتعزيز للأمن الإقليمي, أم مصدر تهديد وإضافة لمعادلة الأمن الإقليمي. فهذا محك آخر علي القيادة الفلسطينية أي تنجح فيه لطمأنة الجوار العربي وغير العربي بأن الدولة الجديدة ستكون مصدر إعمار لا خراب, ومصدر استقرار لا قلاقل, مصدر رخاء اقتصادي لا مصدر فقر.
منذ عام 1996 حتي بداية انتفاضة عام 2000 , كان من الممكن القول إن السلطة الفلسطينية بدأت تتصرف كدولة, وإن قامت بأخطاء عديدة. إن من قاموا بنقل ثورة فتح إلي رشد السلطة الفلسطينية, قاموا بنقلة مهمة تحسب في التاريخ لهم. أدخلوا السلطة الفلسطينية في بدايات النضج, وتفاوضوا في أوسلو وواشنطن وطابا وغيرها.
الخطأ الكبير الذي وقعت فيه القيادة الفلسطينية كان مع بداية عام 2000 , عندما فشلت هذه القيادة في تحمل نتائج مفاوضاتها مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون, مفاوضات كادت تمنحهم الدولة مقابل تنازلات محدودة , ولكن القيادة الفلسطينية وقتئذ خافت من مواجهة شعبها بقبول هذه التنازلات, فقررت أن تعلنها ثورة بدلا من دولة . ودخلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية كفصائل في المقاومة , عاد رجال الدولة إلي مراهقة الثورة فعندما أصبحت الأجهزة الأمنية طرف مقاومة , وتخلت عن مهامها في بناء الدولة ,هزت بذلك ثقة المجتمع الدولي و الأطراف المعنية والراعية للقضية الفلسطينية بها , فلم يعد المصريون والأمريكيون والأوربيون والإسرائيليون يثقون بأن هذه القيادات الفلسطينية قادرة فعلا علي الانتقال من المراهقة الثورية إلي رشد الدولة. وسيطرت علي الجميع حالة من الشك في أن الدولة الفلسطينية القادمة ستكون مصدر قلاقل لا استقرار, لأن شهوة الثورة لدي قياداتها أكبر من أن تكبح جماحها التزامات الدولة. الحل الوحيد أمام الفلسطينيين اليوم هو إعادة هيكلة مؤسساتهم, بما فيها حماس, بما يتسق مع رشد الدولة لا مراهقة الثورة, وربما يتسق مع الاستقرار الإقليمي لا تقويضه. ويمكن تلخيص ذلك في عدة نقاط; الأولي هي البحث عن قيادات جديدة تحظي بثقة الداخل و الخارج. وتكون أيديولوجية الدولة لا الثورة هي المعيار في هذا الاختيار. ومطلوب أن تقتنع حماس بأنها حزب سياسي وتتصرف كحزب سياسي. سلوك حماس الانقلابي يؤكد أنها غير قادرة علي أن تكون حزبا, وهي تتصرف كميليشيا غارقة في مراهقة ( الخلافة). إذا ما استطاعت حماس النضوج كحزب سياسي فعلا , ربما سيصبح لدينا نموذج في الحياة السياسية الفلسطينية شبية بكثير من الديموقراطيات العريقة, فمثلا أن تكون فتح هي بمثابة الديموقراطيين في الولايات المتحدة , وتكون حماس هي الجمهوريين , أو نموذج المحافظين والعمال في بريطانيا. ومطلوب أيضا من الفلسطينيين أن يقيموا انتخابات جديدة لتعيين قيادة جديدة .
هذه الانتخابات لابد أن تمارس بحرية من دون خوف, فالأساس في المجتمع الحر هو حرية الاختيار .
إن لم يستطع الفلسطينييون اختيار قيادات جديدة تثبت للمجتمع الدولي أنها تؤمن برشد الدولة لا مراهقة الثورة , وتؤمن بدولة فلسطينية تعزز الاستقرار الإقليمي ولا تساهم في إضعافه أو تقويضه .. إن لم يقدر الفلسطينييون علي هذا التحدي الكبير , فنحن ربما أمام ستين عاما أخري من النكبة!