في بلد مثل باكستان لم يكن مستعزبا أن يتلاحق مسلسل العنف والإرهاب والإجهاض المستمر للحياة الديموقراطية,فباكستان البالغ تعداد سكانها 160مليون نسمة عاشت أكثر من نصف عمرها منذ تأسيسها كدولة في عام 1947 تحت حكم ”الجنرالات” والانقلابات والنصف الآخر في ظل حكومات مدنية يهيمن عليها العسكر…لكن العنف السياسي أطاح هذه المرة برئيسة الوزراء السابقة وزعيمة حزب الشعب الباكستاني بينظير بوتو سليلة عائلة بوتو الشهيرة,وإحدي أشهر دعاة الديموقراطية والانفتاح علي الغرب في بلادها…
البعض أشار بأصابع الاتهام للرئيس الباكستاني برويز مشرف ونظامه المخابراتي بتراخيه في توفير الحماية الأمنية لبوتو التي زادت من تحركاتها وسط الجماهير عقب وصولها مؤخرا من منفاها تمهيدا لخوض الانتخابات التشريعية في الثامن من يناير 2008 كما كان مقررا قبل الاغتيال,حيث تم تأجيلها إلي 18فبراير القادم,لكن المدافعين عن الرئيس ينفون التهمة باعتباره الرجل الذي استقدم بوتو من منفاها الاختياري في الثامن عشر من أكتوبر الماضي من دبي وفق اتفاق علي تقاسم السلطة فيما بينهما بحثا عن مخرج له وسط أزمة الأحزاب الدينية وطغيانها المتزايد في الشارع الباكستاني وتعالي الأصوات التي تنادي بتخليه عن قيادة الجيش والسلطة الرئاسية,فضلا عن تعرضه مرات لمحاولات اغتيال في كراتشي وإسلام أباد وفي روالبندي التي شهدت مصرع بينظير بوتو.
البعض الآخر وجه أنظاره لمنطقة القبائل حيث تنظيم القاعدة المدعوم من حركة طالبان الأفغانية والجماعات الأصولية والجهتان كانتا تناصبان بينظير بوتو العداء لشعاراتها المتكررة لضرب الإرهاب منذ وصولها باكستان بعد ثماني سنوات في المنفي فضلا عن علاقاتها الوثيقة مع واشنطن,والمعروف أنه تنتشر في باكستان أكثر من خمسة آلاف مدرسة دينية تعلم مبادئ وأفكار الجماعات.
أعلنت القاعدة علي لسان أحد قادتها المحليين أن التنظيم سوف يستقبل بوتو بالتفجيرات فور عودتها للبلاد,وهو ما يرجح ضلوع الجماعات الدينية الأصولية في جريمة اغتيال بوتو.
بالطبع ليس من مصلحة الفاعل الحقيقي للجريمة أن تصعد بوتو لمقعد رئاسة الوزراء في باكستان وهو المقعد الذي كان ينتظرها إن قدر لها خوض الانتخابات القادمة التي كانت علي الأبواب حيث تترأس حزب الشعب الباكستاني أكبر الأحزاب السياسية في البلاد وشعبيتها كانت في ازدياد محليا ودوليا.
أيا كان الفاعل فإن المحللين يتفقون علي اختلاف أطيافهم أنه باغتيال بوتو أصيب الديموقراطية بباكستان في مقتل,بيد أن الطامة الكبري تكمن في أن الحياة الديموقراطية حرمت منها باكستان بامتداد تاريخها برغم أنها تمثل سبيل الخلاص الوحيد للبلاد من العنف والفقر وفقدان الرؤية القومية.
قالت هيئة إذاعة ”بي بي سي” البريطانية في تقرير لها عقب الحادث أن صلابة بوتو برزت للعيان عقب سجن الجنرال ضياء الحق لوالدها ذو الفقار علي بوتو عام 1977 ثم إعدامه في 13إبريل 1979..عندها بدأت بوتو الابنة مسلسل قيادة إرث العائلة السياسي حيث قضت خمس سنوات في حبس انفرادي شديد القسوة علي امرأة,وما أن خرجت من السجن حتي بدأت حملة مضادة توجتها بالعودة إلي البلاد عام 1986 وبعدها بعامين صعدت لمنصب رئاسة الوزراء عقب وفاة الجنرال ضياء الحق في حادث انفجار طائرته عام 1988.
ارتبطت بينظير بوتو باسم والدها ذوالفقار بوتو الذي احتل منصب رئيس باكستان ورئيس الحكومة في أوائل السبعينيات فكانت حكومته إحدي الحكومات القلائل المدنية خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال عن الهند,وبرغم كونها أشهر سيدة سياسية بامتداد العالم الإسلامي إلا أن حياتها السياسية تعرضت للعديد من الإخفاقات حيث وجهت إليها اتهامات بالفساد واستغلال السلطة بمشاركة زوجها ومن ثم أدينت وسجنت ونفيت وأخيرا عادت لكي تستعيد مسيرتها السياسية ومجد عائلتها فعاجلها القدر بضربة غادرة من إرهاب متربص لها وللديموقراطية المخنوقة في بلدها.
ولدت بينظير بوتو في21يونية 1953 لواحدة من أشهر العائلات السياسية في باكستان حيث شغل والدها ذو الفقار منصب رئيس الجمهورية ورئاسة الحكومة منذ بداية السبعينيات حتي عام 1976 بعد أن أقصاه انقلاب عسكري قاده الجنرال ضياء الحق وأودع بموجبه السجن بتهمة الابتعاد عن المسار الديموقراطي وبعدها بعامين نفذ فيه حكم الإعدام عن عمر يناهز 51عاما.
استكملت بينظير تعليمها في الولايات المتحدة خلال الفترة من 1969إلي1973 بكلية رادكليف وجامعة هارفارد حيث حصلت علي درجة البكالوريوس في الآداب والإدارة.بعدها سافرت إلي المملكة المتحدة حتي 1977 حيث درست الفلسفة والسياسة والاقتصاد أتبعتها بدبلومة في القانون الدولي والدراسات الدبلوماسية.
قادت بينظير مسيرة عائلتها بصلابة عقب إعدام والدها ونالت مسعاها حيث ترأست الوزارة مرتين الأولي بين عامي 1988و1990 وما بين عامي 1993و.1996وفي المرتين أقيلت من المنصب الرفيع بتهم الفساد وإساءة استخدام السلطة.
رغم ما واجهته بوتو من عراقيل واتهامات إلا إنها في نظر كثير من المراقبين مثلت واحدة من أشهر الشخصيات النسائية في العالم وسط مؤسسة سياسية يسيطر عليها الرجال ومجتمع شديد التقاليد الموروثة بعكس المجتمع الهندي الملاصق والند لباكستان.
في عام 1987تزوجت بينظير بوتو من عاصف علي زرداري في كراتشي مسقط رأسها وأنجبت منه بنتين بختوار وعاصفة وولدا أسمته بيلاوال.
لكن عددا من المراقبين يرون أن زرداري تسبب في إسقاط زوجته من السلطة من خلال منصبه الوزاري بسبب تهم الفساد والاختلاس التي طالته حتي إنه قضي ثماني سنوات داخل السجن ثم أطلق سراحه في سنة 2004بكفاله بعد أن دفعت المحكمة بأن التهم الموجهة إليه ذات دوافع سياسية وتحديدا من جانب غريم بوتو ورئيس حزب الرابطة الإسلامية نواز شريف الذي ترأس الوزارة عقب إسقاط بينظير بوتو.
قضت بوتو الثماني سنوات الأخيرة بالمنفي متنقلة ما بين لندن ودبي وعقب العفو عنها بموجب اتفاق بينها وبين الرئيس برويز مشرف عادت للبلاد إلا أن موكبها الحاشد في 18أكتوبر الماضي وسط مؤيديها تعرض لتفجيرين انتحاريين في كراتشي في منتصف الليل قتل فيه أكثر من 125شخصا ولم تصب هي بأذي ثم جاء حادث الاغتيال الأخير المروع في روالبندي حيث صوب إرهابي رصاصتين في العنق والصدر فارقت معهما الحياة بمجرد وصولها المستشفي بعدها فجر الانتحاري نفسه ولم يكن يبعد عن هدفه الثمين سوي 25مترا.
ولأنها كانت عاملا حاسما ضاغطا باتجاه دفع الديموقراطية ومن ثم اغتالوها لذا رشح ابنها بيلاوال البالغ من العمر 19سنة علي رأس حزب الشعب المعارض أملا في استكمال المسيرة وحتي لا تصاب الديموقراطية بباكستان في مقتل..فهل تترسخ الديموقراطية في باكستان ويكتب لهذا البلد المضطرب باستمرار أن يستقر ويتفرغ لمعركة التنمية والرفاهية؟!