السودان في انتظار المجهول…هذه هي الحقيقة التي فرضها قرار المحكمة الجنائية الدولية يوم الأربعاء 4مارس2009 بإصدار مذكرة توقيف للرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية,بعد أن أسقطت عبارة جرائم حرب إبادة.
القرار وضع السودان قسرا أمام تحديات عديدة أسوأها تحويل هذا البلد الغني بثرواته النفطية والطبيعية لنسخة من العراق عقب الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين.
قال أمين عام المحكمة الدولية لويس مورينو أوكامبو الأرجنتيني الأصل إنه قدم مئات الوثائق إلي قضاة المحكمة منذ طلبه إصدار مذكرة التوقيف في 14يوليو الماضي مما تسبب في تأخر القضاة في اتخاذ قرار بشأن مذكرة الاعتقال لمراجعة كل الأدلة. كما أن هناك قرارا بمثول ثلاثة من قادة التمرد في دارفور أمام المحكمة دون الكشف عن أسمائهم حتي يسهل عليهم المثول طواعية.
وأشار أوكامبو البالغ من العمر 56سنة إلي أن البشير استخدم قبائل الجنجويد كذريعة لسنوات عديدة للإيحاء بأن النزاع في دارفور هو صراع قبلي مما ساعد علي استمرار الإبادة الجماعية. وهناك اتهامات جديدة من بينها تعذيب ثلاثة نشطاء في حقوق الإنسان بالسودان تم اعتقالهم أواخر يناير الماضي لتقديمهم معلومات للمحكمة الجنائية الدولية.
حجم المأساة لا شك كبير خاصة وأنها المرة الأولي التي تتخذ فيها المحكمة منذ إنشائها عام 2002 قرارا باعتقال رئيس يمارس صلاحياته الرئاسية. لكن المحللين يرون عددا من السيناريوهات:
أحدها أن يتجاهل البشير المثول لقرار المحكمة الدولية مدعوما بالمسيرات الشعبية مع مساندة ودعم بعض الدول الكبري مثل روسيا والصين. ولكن هذا السيناريو سوف يثير حفيظة متمردي دارفور ويبدأون في تصعيد هجماتهم المسلحة علي الخرطوم. إلا أن السيناريو قد يجبر المجتمع الدولي علي اتخاذ خطوات عقابية كما جري من قبل مع العراق وليبيا.
سيناريو آخر أن تتوسط دول عربية إضافة للجامعة العربية والاتحاد الأفريقي لدي الأمم المتحدة وواشنطن لإيجاد مخرج للأزمة من خلال وقف الإجراءات الخاصة بمذكرة التوقيف لمدة 12شهرا بتفعيل المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة.
من السيناريوهات المطروحة احتمال وقوع انقلاب عسكري أو وقوع السودان تحت طائلة عقوبات عسكرية أمريكية جديدة أو فرض منطقة لحظر الطيران فوق دارفور,وتعطيل اتفاق السلام لعام 2005 بين شمال السودان وجنوبه,وهو ما يهدد بعودة الحرب الأهلية من جديد,وهي الحرب التي دامت 21سنة وخلفت مليوني قتيل وشردت 4ملايين آخرين.
المعارضة السودانية تقف موقفا مناوئا للبشير,فلا يخفي موقف حزب المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة د.حسن الترابي. وكان الأخير أعلن مرات أنه من الأجدر بالبشير أن يواجه تهم القضاء الدولي بدلا من الإهانة وتعريض البلاد للخطر.
هناك أيضا موقف عبد الواحد نور زعيم حركة تحرير السودان بدارفور وإعلانه باستمرار ضرورة مثول البشير أمام العدالة الدولية,باعتبار أن الفوضي بالفعل قائمة علي حد قوله في دارفور والانفلات الأمني مستمر ولم يتبق شئ لكي يتم تدميره بعد أن تحول إقليم دارفور إلي معسكرات يعيش فيها 4ملايين ونصف المليون من السكان تحيط بهم قوات الجنجويد.
علي كل الأحوال يتفق معظم المحللين علي أن الحكومة السودانية منقسمة داخليا بين معتدل ومتشدد,وأنه في الإمكان حل البرلمان وإعلان الطوارئ.
بل إن هناك من يهمس داخل الحكومة أن البشير أصبح عبئا علي الحزب الحاكم ومن ثم يتعين عليه الرحيل,خاصة وأن قرار التوقيف من شأنه أن يدعم حركات التمرد في دارفور فيقومون بتصعيد نشاطهم العسكري مما قد يخلق نوعا من الفوضي في الخرطوم نفسها.
لذا يقول المراقبون إن البشير يقف بين مطرقة المجتمع الدولي والتدخلات الأجنبية وسندان المعارضة السودانية. لكن بعد صدور المذكرة ماذا يتبقي أمام الرجل الذي اعتاد أن يلوح بعصاه يمينا قائلا بأنه سيحل جميع مشاكل السودان,ويلوح يسارا بأنه لن يركع للغرب وتدخلاته في السودان.
ولد عمر حسن البشير في قرية هوش بانقا إحدي قري ريف شندي في ولاية النيل الشمالية سنة 1944,والتحق بالكلية الحربية السودانية,وحارب مع الجيش المصري ضمن وحدة سودانية في عام 1973,وارتقي في الرتب العسكرية وأظهر براعة خلال خدمته في الجيش إبان الحرب الأهلية مع الجنوب السوداني,وهو متزوج من امرأتين ولم ينجب أطفالا.
بعصا القوة وصل البشير إلي سدة السلطة عبر انقلاب عسكري قاده في 30يونية1989 فيما سمي حينها بثورة الإنقاذ الوطني. وتسلم السلطة في البداية مع حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية وقتها من خلال مجلس لقيادة الثورة وحكومة الخلاص الوطني المؤلفة من ضباط شبان,وأصبح البشير رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع وقائدا عاما للقوات المسلحة السودانية. وقام بحل البرلمان والأحزاب السياسية وأعلن حالة الطوارئ وعطل الصحف ثم حل مجلس قيادة الثورة ونقل أعضاءه لوظائف أخري.
إبان التسعينيات أصبحت الخرطوم معقلا للتيار الإسلامي الدولي واحتضن زعيم القاعدة أسامة بن لادن قبل أن يبعده بسبب الضغوط الأمريكية عليه.
وفي 16أكتوبر 1993 أصبح البشير رئيسا للجمهورية. ولكي يحل مشكلة توزيع السلطات اختار النظام الاتحادي (الفيدرالي).
استخدم البشير عصاه مع رفاقه فانقلب علي الترابي سنة 1999 ثم سجنه من 2001 إلي 2003 بتهمة التواطؤ مع انقلابيين,لكنه حاول الابتعاد عن الإسلاميين وتدارك علاقاته الدولية من جديد.
في 2005 أنزل البشير عصاه ووقع اتفاق السلام الشامل مع الجنوب بعد اتفاق نينواشا في 2003…لكن حربا أخري اندلعت في دارفور بغرب السودان بين ميليشيات الجنجويد المدعومة من الحكومة وحركات التمرد بالإقليم.
في 2006 فشل اتفاق أبوجا بين الحكومة وحركة تحرير السودان (جناح مناوي) لوقف الحرب في دارفور. وكان البشير بعد كل اتفاق يشهر عصاه راقصا مع خصوم الأمس,حتي إعلان النوايا الذي وقع مؤخرا في الدوحة لم يقدم كثيرا.
وجاء عام 2008 باتهام المحكمة الجنائية الدولية للرئيس البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية فجاء الخوف والتوجس من المجهول.
يقول البعض ماذا يفعل البشير بعصاه: هل يستمر في التلويح بها في وجه المجتمع الدولي أم يتوكأ عليها راحلا عن المشهد السياسي؟!…سوف تنجلي الصورة بوتيرتها المتسارعة خاصة وأن الحكومة السودانية بدأت في إجراءات طرد لأكثر من عشر منظمات حقوقية تعمل بالسودان وجاء الرد الدولي سريعا باعتبار الخطوة ضمن جرائم حرب…فماذا يخبئ الغد للسودان؟!!