لسنين عديدة سوف يكتب التاريخ عن ثورة 30 يونيو 2013 وكيف اصطف المصريون فى الميادين لأيام بالملايين أنتظاراً لموعد إنتهاء المهلة الثانية (48 ساعة) التى أعلنها وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى للقوى الوطنية للتوافق وإلا ستضطر القوات المسلحة بوازع الخوف على الوطن للتدخل وإنقاذ البلاد من حرب أهلية باتت وشيكة وكادت تعصف بالبلاد والعباد
وأنتصرت الإرادة الشعبية فى الثالث من يوليو بعد فترة حكم عصيبة للإخوان المسلمين دامت نحو عام ساد فيها، حسب وصف الكاتب الكبير أحمد رجب ضباب الفوضى وتنازع القوى الوطنية على الحكم، بعدها سرقت الثورة وعمت حالة اكتئاب ثم استجاب الله لدعوات المصريين فظهر من أبنائها بطل شعبى أزاح عن صدرها الكابوس ودخل البطل قلوب المصريين وأصبح هو الرجاء والأمل والحماية.
البطل الشعبى أوجعه منذ أيام ما ألم بالفتاة ضحية التحرش بميدان التحرير فتوجه فى أول جولة له بعد يومين من حفل التنصيب الرئاسى بقصر الإتحادية لزيارة الفتاة فى المستشفى الذى ترقد فيه مقدماً إعتزار شخصياً وباقة ورد وذلك فى سابقة لم يألفها المصريون من رئيس سدة الحكم.
الزيارة المفاجئة إعتبرها البعض تدشيناً لثقافة الإعتذار والحساب فى وقت عمت فيه اللصوصية والقتل والخطف والتحرش والتعدى على الأراضى.. وقلل البعض الآخر من قيمة الأعتذار إذا لم يقترن بالحسم ومنع الظاهرة من الأنتشار.. ووصفها فريق ثالث بمنهج جديد تشارك فيه السلطة الشعب أفراحه وتئن لأوجاعه.
فى مقارنة سريعة بهذا الشأن قال باحث علم الاجتماع السياسى عمار على حسن: حكم الرئيس الأسبق مبارك بسلطة لا ترى الشعب وانتهت فترة حكمه باحتقار الشعب وتغييبه فلم يعتذر عن حوادث كبرى مثل حادث العبارة السلام (راح فى الحادث الشهير ما يزيد على الألف مصرى ظلت جثثهم لأيام طعاماً لأسماك القرش المفترسة وإنما توجه إلى استاد القاهرة لمشاهدة مباراة مصر والكونغو لتشكل فترة حكمه قطيعة كاملة مع الشعب… وأعتذر الرئيس جمال عبد الناصر عن منصب رئيس الجمهورية بعد نكسة حرب 1967 مع إسرائيل فأعلن تحمله المسئولية كاملاً.. فى حين تعامل السادات مع معارضيه بإستهانة شديدة.
أما فترة حكم الرئيس محمد مرسى وجماعته فقد اتسمت بتعالى السلطة على الشعب برغم شعارات ثورة 25 يناير 2011 من الحرية والعيش والكرامة الإنسانية، فلما طفح الكيل وتعالت مطالبات الشعب للجيش بإنقاذ البلاد وقف القائد الذى ينتمى لمؤسسة القوات المسلحة المصرية الوطنية بجانب الشعب وفقاً لمبادئه الراسخة.. فماذا عن مبادئ الرجل وأفكاره؟
سطر الجنرال السيسى أفكاره ومبادئه فى بحث قدمه عام 2006 أثناء دراسته بكلية الأركان العسكرية الأمريكية فى كارلايل بولاية بنسلفانيا ودرس فيها ثلاث دورات فى التفكير الاستراتيجى ونظرية الحرب الاستراتيجية وصياغة السياسات الوطنية، قال فى بحثه ويبرز فيه إيمانه الشديد بفكرة الوطن وجرأته وثباته على المبدأ:
مصر ترفض الأفكار المتطرفة، وإصلاح التعليم أولى خطوات الديمقراطية ولابد توحد دول الشرق الأوسط تحت مظلة واحدة لضمان تحقيق مصالح المنطقة.
واستطرد: أتمنى أن تنفق أمريكا ملياراتها لمساعدة الدول بدلاً من غزوها، وضرب العراق وأفغانستان أفقد الثقة فى نواياها.
من عناوين البحث البارزة “الديموقراطية فى الشرق الأوسط” وانتقد الجنرال واشنطن لدعمها أنظمة غير ديموقراطية وغير محترمة للحفاظ على مصالحها.
أيضاً أشار إلى دور الدين فى أى تغيير ديموقراطى فى المنطقة معبراً عن قناعته فى أنه لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية والبيعة والشورى فجميعها آليات يمكن أن تتطور الديموقراطية من خلالها.
أكد كذلك الجنرال هادئ الطباع كما وصفه معلموه بالكلية الأمريكية أن ولاء الجيش والشرطة يجب أن يكون للوطن وليس للحاكم، وأنتقد حكام المنطقة المستبدين الذين يتظاهرون بالديموقراطية بينما هم فى الحقيقة غير راغبين فى التخلى عن السلطة.
قال السيسى فى أول حوار له عقب ثورة 03 يونيو وأجرتها معه صحفية المصرى اليوم: نائب المرشد العام الجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر قال لى قبل سقوط مرسى بنحو عشرة أيام أنه فى حالة سقوط عضو الجماعة من على كرسى الرئاسة سيقوم متطرفون إسلاميون لا تسيطر الجماعة عليهم بتنفيذ عمليات إرهابية وأنه لا يعرف ماذا يمكن عمله حينئذ فانفجرت فيه: “أنتم عايزين يا تحكمونا يا تموتونا”!
واستطرد: وتحدثت عدة مرات مع الرئيس مرسى قبل أن تطيح به ثورة 30 يونيو وقبل قرار عزله فى يوليو فى محاولة لحثه على إيجاد حل للأزمة السياسية المتفاقمة.. واللى بيعمل انقلاب مابيكلمش حد.
ولما أصم الرئيس أذنيه قررنا عزله دون أن نستشير أحداً وطلبت من الملايين النزول إلى الميادين وتفويض الجيش فى سيناريو حقيقى على الأرض كشف أن ما جرى ثورة حقيقية خرجت فيها الملايين فى التحام شديد بين الشعب والجيش الذى قدم الأداة المطلوبة دون أن يحكم.
ولد عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسى فى 19 نوفمبر 1954 بحى الجمالية بالقاهرة فى 7 حارة البرقوقية وهو بيت متواضع بناه الأب سعيد السيسى.
لم يكن عبد الفتاح الطفل والشاب كباقى رفاقه فطالما كان يقضى أوقات فراغه فى القراءة وبخاصة روايات نجيب محفوظ وفى ممارسة الرياضة، ومنذ صباه أتم حفظ القرأن الكريم.
تزوج من أبنة خالته انتصار عقب تخرجه في الكلية الحربية وله ثلاثة أبناء مصطفى بالرقابة الإدارية ومحمد رائد بالمخابرات الحربية وحسن مهندس بإحدى شركات البترول وإبنة هى أية خريجة الكلية البحرية.
قال عنه إبن عمه الحاج فتحى السيسى: شيئان لم يكن يستطيع عبد الفتاح الغياب عنهما القرآن وأمه. والتزامه الدينى هو ما جعله الأقرب فى الاختيار لدى الرئيس المعزول ليضعه فى منصب وزير الدفاع.
من كلماته التى كان يرددها من زمان: لا طاعة لمخلوق فى معصية الله.. واللى يخاف من ربنا مايخافش من مخلوق.. وده منهجه فى الحياة.
لما كان هيتعين ملحق عسكرى فى أمريكا وطلبوا منه إن مراته تقلع الحجاب رفض التعيين مرتين لحد ما جات الموافقة منهم.
يرتبط عبد الفتاح – والكلام مازال لابن العم- بشدة بأمه ففى يوم عزل الرئيس مرسى وجماعته (3 يوليو) بعد إلقائه خطاب العزل وخارطة الطريق خرج من القاعة ولم يكمل اللقاء وأكمل سماعه بجوار أمه فى منزلها بمدينة نصر.
عبد الفتاح الذى يعشق صينية الفتة من إيدين الحاجة هو أقرب الأبناء لشخصية والده فى الالتزام والحق والتدين.
تخرج السيسى فى الكلية الحربية سنة 1977 وحصل على ماجيستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان عام 1987 وماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان البريطانية عام 1992 ثم أكاديمية ناصر العسكرية العليا سنة 2003 وزمالة كلية الحرب الأمريكية عام 2006 وتدرج فى المناصب العسكرية وصولاً إلى قيادة المنطقة الشمالية العسكرية ثم مديراً للمخابرات الحربية.
فى 12 أغسطس 2012 تعرف معظم المصريين على مدير المخابرات الحربية الذى أقسم اليمين وزيراً للدفاع أمام الرئيس محمد مرسى.
قالت عنه مؤخراً مجلة فورين بوليس: برغم دراسة الجنرال السيسى بكلية الأركان الأمريكية التابعة للجيش الأمريكى إلا أنه لا توجد مؤشرات على أن دراسته فى الولايات المتحدة منحت واشنطن أى نفوذ يذكر على أقوى رجل فى مصر الآن. فقد تجاهل تحذيرات وزير الدفاع الأمريكى تشاك هيجل المتكررة يوم الإطاحة بالرئيس مرسى، ولم يستمع لنصائح المسئولين الأمريكيين بعدم ملاحقة قيادات الإخوان. بل الأكثر من ذلك شن السيسى هجوماً وانتقادات حادة على واشنطن هى الأقوى لوزير دفاع مصرى منذ عقود، وذلك فى إشارة إلى حوار السيسى مع صحيفة واشنطن بوست الذى اتهم فيه الإدارة الأمريكية بأنها تخلت عن المصريين.
واستطرت المجلة: وبالرغم من انتقادات السيسى للإدارة الأمريكية فإن المسئوليين الأمريكيين يصرون على أن قناة الاتصال بالسيسى هى الأقوى فى مصر.
بينما وصف تقرير فورين بوليس عن الرجل بأن لديه أيديولوجية إسلامية تؤثر على تشكيل آرائه السياسية وذلك على حد قول عدد ممن زاملوه بكلية الأركان الأمريكية، إلا أن معلمه البروفيسور الأمريكى بكلية الحرب الأمريكيد ستيفن جراس وصفه بالمسلم التقى وأن لديه معرفة عميقة بالدين.. لكن رغم تدينه الواضح إلا أنه لا يوجد أى دليل على انتمائه لتيار الإسلام السياسى.
عبد الفتاح السيسى لا يتحدث كثيراً وتتسم كلماته بالتركيز والبساطة والوضوح. من أكثر ما ركز عليه فى خطاباته أو بياناته منذ توليه منصب وزير الدفاع أثناء وجود الرئيس المعزول فى منصبه هو أن الجيش لم ولن ينحاز إلا للشعب ومطالبه المشروعه وكذلك لن ينحاز لفصيل أو تيار سياسى دون آخر أو لا يجب فهذه أفكاره ومبادئه.
قال السيناتور الأمريكى السابق كولمان لمجلة إيكونوميست البريطانية إن الإطاحة بمرسى كانت تنفيذاً لمطلب شعبى وقع عليه أكثر من 22 مليون مصرى طالبوا بسحب الثقة منه ونزلوا إلى الشوارع للإطاحة به. لكن إدارة أوباما بعد وقوفها على الجانب الخطأ من الثورة لم تعدل إلى الحقيقة القائمة.
وقالت وكالة أسوشيتد برس الاخبارية الأمريكية إن العديد من المصريين يأملون فى السيسى كمنقذ قوى يمكن أن يحقق الاستقرار بعدما يقرب من ثلاث سنوات من الإضطراب.
وقال ديمترى ترينين المحلل السياسى الروسى إن الإسلام السياسى تلقى ضربة موجعة وسينتهى المطاف بتسليم الجميع بفصل الدين عن الدولة.
قال عنه المفكر السياسى مصطفى الفقى: يملك كبرياء عبد الناصر ودهاء السادات ولا عجب فهو رجل عسكرى ورجل مخابرات.
أطلقت عليه الكاتبة فاطمة ناعوت “صانع الفرح” بعد أن أحس بأوجاع المصريين وعدم رضائهم عن حاكم جاء بليل فى غفلة من الزمان والمكان والأوطان وكان أمام صانع الفرح خياران: إما أن يستجيب لسلطان جائر وينال دروعاً ونياشين وأوسمة يعلم أنها زائلة لا قيمة لها حين يخسر المرء نفسه. وعاماً أن يجازف بأمنه الشخصى وأمن أسرته متحدياً جماعة إرهابية دموية ومتحدياً أمريكا المرعبة وينصت إلى صوت الضمير الحد الخانق وقد اختار الثانى.
صانع الفرح ديوان شعرى صدر لناعوت عن دار ميريت سنة 2012 ورغم أن الديوان كتبت معظم قصائده قبل ثورة 25 يناير 2011 والبعض بعد الثورة قبل عصر مرسى إلا أن ناعوت تقول إن التصدير يكاد ينطبق على الذين سرقوا الفرح.
ينتمى السيسى لمواليد برج العقرب وهو البرج الذى لا يعرف أصحابه سوى الأبيض والأسود، ويتعصبون للعدالة، وهم معظورون على الذكاء والإنفعال فى آن واحد.. كما أن قهرهم صعب ولديهم قوة الإرادة، ويهدفون إلى الحقيقة أينما كانت سواْ فى الحياة أو الموت أو المرض أو الحب أو الدين، ويؤمنون بالتعمق ويكرهون السطحية لأقصى حد… وفى الغالب يصنع أصحاب هذا البرج أهدافهم وسبل الوصول إليها، وفى سبيل ذلك لا يأبهون الصعاب أو حتى الموت.
يجيد السيسى لغة التواصل مع الجماهير أكثر من كل من سبقه من الرؤساء باستثناء عبد الناصر.. وخطابه الشعبوى هو الغالب فى أحاديثه التى يدغدغ فيها مشاعر الناس ويلامس أحاسيسهم مثل عبارات: “مصر منتظراكم ولا يجب أن نكسر بخاطرها أكثر من كده”.. “وحاسب وأنت بتتعامل مع المصريين”.. وفى زيارته للفتاة ضحية التحرش بميدان التحرير قال للفتاة: “ماتزعليش أنا جاى أقولك وأقول لكل ست مصرية أنا أسف أنا باعتذرلكم كلكم سامحونى”… وقال منذ أيام أمام آلاف الشباب أثناء مشاركته بماراثون الدراجات: عرضنا ينتهك فى الشوارع وده لا يجوز.. واللى هيفكر يبص بس لواحدة بعد كده هنوريه وبالقانون”.. “هى البلد دى ما بقاش فيها رجالة ولا إيه علشان يحصل فى عرضنا كده؟ الأمر ده مش هايتكرر تانى”.
حافظ الجنرال على هدوئه وصمته فى أغلب الأحيان لكنه حافظ على رسالة معلنة للجميع مفادها أن الجيش مع الشعب، وهى الرسالة التى فهمها الجميع إلا الجماعة الحاكمة التى كانت فى حالة إنكار دائم.
يتفق كثير من المحللين على أن تأثير ثورة 30 يونيو لا يغفله باحث ملحق فقد أحبطت الثورة مخططات التغيير فى منطقة الشرق الأوسط فضلاً عن تأثيراتها على عديد من دول الجوار ومن حولنا سواء فى ليبيا حيث اللواء خليفه حفتر ويطلقون عليه السيسى- الطبعة الليبية لكون خطوات تحاكى ثورة التصحيح فى مصر التى انحاز لها الجيش بقيادة السيسى مع الفارق.
وفى تونس تعلمت قيادات حركة النهضة الإسلامية الدرس وتركت مقاليد السلطة التنفيذية فى الوقت الراهن لتهدئة الشارع خوفاً من مصير الإزاحة عن السلطة كما جرى فى مصر لكنهم يتحكمون فى البرلمان وتأثيرهم باق فى الشارع التونسى. فضلاً عن التغيير الحادث فى تركيبة الصراعات بعدة مناطق كماضى سوريا والعراق..
حكاية رئيس تختزن الكثير من إبداعات القائد المنقذ صاحب الإرادة والوطنية الخالصة ومفجر الطاقات الكامنة لدى المصريين، تفاصيل الحكاية ممتدة وستريها الأيام والسنون ببشرة خير بحسب تعبير الفنان الإماراتى حسين الجسمى فى أغنية الشهيرة التى تغنى بها الملايين من المصريين أثناء إجراء الانتخابات الرئاسية ولا يزالون…