المسيح قام من بين الأموات, وهو الذي ليس له في القبر جسد أو رفات, وإنما قبره فارغ وقد تحول إلي مذبح تقدم فيه وعليه القرابين, ومنه يبزغ نور في كل عام, في السبت الذي يعرف بالسبت الكبير, وسبت النور, وسبت الفرح… قبر ليس فيه عظام… وليس فيه هوان الفناء للإنسانية, وإنما أشرق ويشرق فيه نور, ويتجدد منه وفيه الأمل والرجاء والإيمان بقيامة الأموات والحياة في الدهر الآتي. قال الوحي الإلهي بفم النبي إشعياء عن المسيح إياه تترجي الأمم, ويكون مثواه مجيدا (إشعياء 11: 10).
ولقد مات المسيح يسوع, لأنه كان لابد أن يموت, لكي يفدي بموته الجنس البشري كله, المحكوم عليه بالموت جزاء التعدي والمخالفة والمعصية التي فعلها آدم أبوهم, وفيه يموت جميع الناس (1كورنثوس 15: 22).
ولذلك فإن موت المسيح ليس عارا للمسيحيين, لكنه طريق الخلاص من العقاب الأبدي وبرفع وزر الخطيئة. مات المسيح ليهبنا خلاصا وليمنحنا السلام القائم علي العدل الإلهي, ولكي يردنا إليه في كنف أبوته, ولكي نحظي معه بمجده في فردوس النعيم وملكوت السماوات.
لكن المسيح يجمع بين كونه إلها وبين كونه إنسانا, في وقت واحد. وبصفته إلها لا يموت, لأن الله حي لا يموت, ولا تقبل طبيعته الموت… وإنما الذي مات هو الإنسان يسوع المسيح أي يسوع المسيح بصفته إنسانا (1تيموثيئوس 2: 5).
وموت يسوع المسيح معناه انفصال وافتراق بين جسده وروحه اللذين يتكون منهما ناسوته أو إنسانيته. علي أن لاهوته المتحد بناسوته لم يفارق لا روحه الإنسانية ولا جسده.
لذلك كان المسيح حيا في موته… كان حيا بلاهوته المتحد بناسوته, لأن اللاهوت لا يموت, ولكن الكتاب المقدس يقرر أن المسيح مات بمعني أنه أسلم روحه الإنسانية علي الصليب (متي 27: 50), (مرقس 15: 37), (لوقا 23: 46), (يوحنا 19: 30) فافترقت من جسده. أما اللاهوت فظل متحدا بكل من الروح والجسد, ولم يفارق لا روحه ولا جسده. وهذا هو السبب في أنه علي الرغم من الموت بهذا المعني, فإنه عندما طعنه قائد المائة لونجينوس بالحربة في جنبه الأيمن جري من جنبه ماء ودم (يوحنا 19: 34), (1يوحنا 5: 6, 8), وهو أمر لا يمكن حدوثه لميت, إذن فيما مات المسيح, بانفصال مؤقت في ناسوته بين الروح والجسد, كان حيا باللاهوت المتحد به. ذاك إذن هو الميت الحي.
قدوس الله, قدوس القوي, قدوس الحي الذي لا يموت الذي صلب عنا, ارحمنا.
وهذا هو السبب في أننا لا نخجل من أن نقول إن مسيحنا مات, لأنه لم يمت عن ضعف, وإنما عن قوة, لكي ينتزع لنا بالموت حقنا في الحياة إلي الأبد… فموته إذن هو عن حب, ولأجل خير يعود علينا ما من حب أعظم من أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه (يوحنا 15: 13).
وفي هذا المفهوم الروحاني, نعيش أحداث الصلب والصليب في يوم الجمعة العظيمة ونحن نردد مع القديس أثناسيوس الرسولي, حامي الإيمان الأرثوذكسي:
قدوس الله الذي من أجلنا تأنس من دون تغير, وهو الإله.
قدوس القوي الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة.
قدوس الذي لا يموت الذي صلب من أجلنا, وصبر علي موت الصليب, وقبله في جسده, وهو الأزلي الذي لا يموت….
وعلي ذلك فيوم الجمعة الذي نحتفل فيه بصلب المسيح هو يوم عظيم وكبير وجليل, ولذلك يسمي يوم الجمعة العظيمة أو الجمعة الكبيرة. وذلك لأنه قد تم فيه الخلاص. هكذا نؤثر أن نسميه, وذلك نظرا لخطره وقيمته في تدبير الفداء والخلاص.
وشكرا لله, فإن الكفن الذي وضع علي جسد المخلص ولفوه به بعد أن أنزلوه من علي الصليب ووضعوه في قبر جديد (متي 27: 59, 60), (لوقا 23: 53)… هذا الكفن المحفوظ الآن في مدينة تورينو Torino بإيطاليا ارتسمت عليه صورة المخلص, وآثار الدم والجروح التي كانت علي جسده, بفعل الحرارة المنبعثة من جسده الذي كان حيا باللاهوت المتحد به, فلم يبرد برودة الموت وكان هذا في الوقت نفسه بينة مسبقة علي أنه سوف يقوم من الموت ففك إسار أوجاع الجحيم, لأنه لم يكن ممكنا للجحيم أن يستبقيه أسيرا له (أعمال الرسل 2: 24).
والأمر الذي حير العلماء والباحثين الذين فحصوا هذا الكفن من الكتان فحصا علميا دقيقا, وأخضعوه للتحليل العلمي الشامل, تبينوا بالتدقيق أنه يرجع إلي ألفي عام واكتشفوا عليه حبوب لقاح لنباتات منقرضة كانت تنمو في فلسطين من ألفي سنة مضت.
ومما هو جدير بالذكر أنه ليس علي الكفن أي أثر لرسم بيد إنسان, والأمر الذي هو أغرب من الغرابة أن آثار الجسد علي الكفن هي بالسلب in Negative وذلك في لغة التصوير الفوتوغرافي, فالأجزاء المضيئة داكنة, والداكنة مضيئة بينما أن بقع الدم علي الكفن هي صورة موجبة In Positive فهي بلون قرمزي قاتم…
ويحمل الكفن المقدس – كما يقول العلماء بعد فحصه فحصا علميا دقيقا – الدليل علي انفجار القوة Explosion of Energy انبعث من الجسد. وهذا مرده إما إلي قوة الحياة الإلهية في الجسد بفعل اللاهوت المتحد به, أو إلي قوة الحياة المنبعثة منه عندما قام من الموت, أو إلي الاثنين معا.
ولما كان الصلب قد تم في يوم الجمعة, ووقع عيد الفصح اليهودي في يوم السبت, وكان الاستعداد للعيد يبدأ في غروب اليوم السابق (مرقس 15: 42), (لوق 23: 54), فلم يكن هناك وقت لغسل جسد المسيح بعد أن أنزلوه من علي الصليب, وكان هذا خيرا, فإن آثار الدم في مواضع كثيرة من الجسد ظهرت علي الكفن عندما لفوه فيه, ومنها بقع الدم علي جبهة الرأس وعلي العنق, ومنها أيضا آثار الجروح والتمزيقات علي جلد الجسد, وذلك من فعل عملية الجلد بالمقرعة ذات السيور الثلاثة فقد ظهرت علي الكفن آثار نحو مائة وعشرين ضربة بالمقرعة علي الرغم من أن عددها القانوني عند العبرانيين 39 جلدة – أربعين جلدة إلا واحدة (2كورنثوس 11: 24), (التثنية 25: 3)… ومنها زيضا آثار المسامير في رسغ أو معصم يديه وقدميه… ومنها أثر طعنة الحربة في جنبه الأيمن, ثم آثار أشواك الإكليل التي انغرست بقسوة في رأسه وجبهته…. ومنها آثار الرضوض والسحجات الخدوش والتقشيرات والتقطيعات في الجلد التي أحدثها حمل الصليب الثقيل علي كاهله وعلي لوح الكتف الأيسر وأعلي الكتف الأيمن, بميل قدره عشرون درجة, وقد ظهر أن الرض والسحق في لوحة الكتف الأيسر أكبر وأعمق من ذاك علي الكتف الأيمن, مما يدل علي أن الكتف الأيسر قد عاني أكثر من الأيمن, وذلك من ضغط خشبة الصليب, كما يدل علي أن الطرف الأدني من الصليب كان مربوطا إلي الكاهل الأيسر – وكذلك بفعل اللوحة النحاسية التي كتبوا عليها بيان تهمة صلبه (متي 27: 37), (مرقس 15: 26), (لوقا 23: 38), (يوحنا 19: 19), والتي كانت موضوعة علي الصليب من خلف رأس المخلص ونازلة علي كتفيه…
كل ذلك ظهر مطبوعا علي الكفن المقدس, وبذلك أضاف هذا الكفن دليلا أثريا ناطقا بحقيقة كل ما أورده الإنجيل المقدس عن حقيقة الصلب بكل تفصيلاتها ودقائقها.
بل إن الآثار المنطبعة علي الكفن المقدس أوضحت بما لا يدع مجالا للشك تفصيلات دقيقة كثيرة عن عملية الصلب نفسها, وموضع المسامير في يدي المخلص المصلوب وأن المسامير قد دقت في رسغ اليد أي المعصم وليس في الكف عند العصب المتوسط. أما القدمان فقد وضعت القدم اليسري منهما بعنف وشدة فوق القدم اليمني الموضوعة مباشرة علي الصليب, ودق مسمار واحد نفذ في الكاحل أو رسغ القدم اليسري, ومنها إلي رسغ القدم اليمني, ومنها نفذ إلي خشبة الصليب. وأما الطعنة في الجانب, فقد ظهرت في الكفن أنها أصابت الجانب الأيمن من جسد المخلص عن الضلع السادسة في المسافة الخامسة بين الأضلاع.
وكشف الكفن المقدس أن إكليل الشوك الذي وضعوه علي رأس مخلصنا كان من طراز مختلف من الأكاليل الدائرية, فقد كان يعلو الرأس بحيث انغرست أشواكه الطويلة في قمة الرأس والجبهة.
كما كشف الكفن المقدس آثار قرت دم جامد يابس وكدمة وورم في منتصف الجبهة يدل علي أن المخلص كان قد سقط علي وجهه أثناء حمله للصليب إلي موضع الجلجثة, ومن أثر ذلك تورم وانتفاخ في الشفة العليا للفم, وورم في الفك الأسفل والذقن, ثم تشوه في الحاجز الأنفي فيما بين الحاجز الأنفي أو قصبة الأنف وبدء غضروف الأنف, وهذا يشير إلي تفتت وكسر في هذا الجزء من الأنف ترك أثره علي الكفن بظهور منطقة صغيرة منخفضة عميقة نوعا ما, وهذا يؤكد مرة أخري أن المخلص سقط تحت الصليب علي وجهه من الأمام.
وظهر علي الكفن أيضا ورم علي حاجب وعلي جفن العين اليسري, وتورم أو انتفاخ علي الركبة اليسري ثم ورم آخر في عظمة الخد الأيمن وانتفاخ في الخد ذاته مما يدل علي سقوط آخر تحت الصليب علي الجانب الأيسر تارة وسقوط ثالث علي الجانب الأيمن. وهذا يضيف دليلا علي صحة التقليد الذي يروي أن المسيح فادينا قد سقط تحت حمل الصليب الثقيل وهو معيي ثلاث مرات.
كذلك كشفت الآثار علي الكفن المقدس أن وجه المسيح من الأمام قد مسحت من عليه بقع الدم بينما ظهرت بقع كثيرة علي جانبي الرأس وعلي العنف, وهذا يؤيد التقليد المنحدر عبر الأجيال عن فتاة تقية اسمها فيرونيقا Veronica رأت فادينا في طريق الصليب, ووجهه قد تلطخ بالدم والطين بفعل العرق المتصبب منه علي تراب الأرض إذ سقط تحت حمل الصليب, فتقدمت نحوه, ومسحت وجهه بمنديلها, فانطبعت صورة الوجه المقدس علي المنديل مكافأة لها علي صنيعها الجميل.
أيها الرب يسوع, ربنا, ملك الملوك ورب الأباب 1تيموثيئوس 6: 15), (الرؤيا 17: 14), (19: 16), إننا كم نفخر بقيامتك المجيدة من الموت, غالبا ومنتصرا, فاتحا أمامنا الرجاء بالقيامة التي أقمتنا فيها معك (كولوسي 2: 12) نمجد أيضا صلبوتك الذي فيه وبه كان لنا حبك ورحمتك بغير حدود, ونفتخر بالصليب ولا نعتبره عارا بل مجدا وفخارا, نحمله في قلوبنا, وفوق رؤوسنا, وعلي صدورنا وأيدينا, مرددين مع الرسول بولس قوله أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح (غلاطية 6: 14).
أنت يا سيدي ملكنا الروحي والسماوي, والصليب هو علم مملكتك وعلمه فوقي محبة (نشيد الأناشيد 2: 4).