شهد المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي تطورات وتغيرات هيكلية علي الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية, ولعل السمة البارزة لهذه التطورات هي تفاقم معدلات الإفقار الاقتصادي والثقافي, وكذلك التغيرات المتصارعة والعشوائية في منظومات القيم الثقافية السائدة. وقد صاحب هذه التغيرات ارتفاع ملحوظ في مؤشرات العنف السياسي والاجتماعي, والذي حظي باهتمام النخب الثقافية والمؤسسات الدولية والحقوقية والإعلامية. وعلي الرغم من كثرة الحديث عن العنف الاجتماعي, إلا أنه كظاهرة آخذة في التفاقم لم يحظ باهتمام فكري وتحليلي يتناسب مع حجم المشكلة من منظور اتساع نطاقها, وتعدد مظاهرها, وخطورة آثارها الاجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية.
من هذا المنطلق نظم مركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية وجمعية النهضة العلمية بالقاهرة وجمعية الجزويت والفرير بالمنيا وجمعية مفتاح الحياة بالأقصر لقاء فكريا بعنوان ##العنف الاجتماعي .. جذوره, واقعه وآثاره## بحضور عدد من الناشطين والمهتمين برصد أوضاع المجتمع المصري, بهدف وضع تلك الظاهرة في دائرة الاهتمام الفكري والثقافي, إيمانا بدور الفكر والإعلام في معالجة قضايا المجتمع والإنسان. ويعد هذا اللقاء تواصلا مع اللقاءات السابقة من حيث اختيار قضايا إشكالية ترتبط بالكرامة والقيم الإنسانية وذات أبعاد ثقافية واجتماعية.
وناقش المؤتمر العنف الاجتماعي من خلال عدة محاور :
المحور الأول: فهم جذور ظواهر العنف الاجتماعي, والذي استهله الأب ##فرنسيس بركماير اليسوعي## بسؤال, هل لأبد من العنف في حياتنا؟ فإننا ولدنا في عالم العنف, وعشنا مستمرين في خلق عالم عنيف, ونرحل ونترك وراءنا عالما أكثر عنفا, ونورث العنف للذين يتبعوننا, فلماذا؟ واستطرد أننا لا يجب أن نعتبر العنف مجرد الهجوم الجسدي الملموس في لحظة زمنية معينة, فلابد من توسيع نطاقه ليشمل جميع الهجمات الطوعية علي السلامة الجسدية أو النفسية لشخص, فكلما يمنع النظام المجتمعي الفرد أن يعيش هويته الثقافية أو الدينية فإنه يعاني من نوع من الهجوم العنيف علي حقوقه الأساسية من طرف أصحاب السلطة الذين يتمسكون بنظام ظالم يضمن مصالحهم الخاصة, ولهذا أشار الأب فرنسيس إلي نوعين من العنف أولهما العنف الهيكلي في سياق الظلم المجتمعي, والثاني العنف الناتج عن العنف النظامي المؤسسي والمجتمعي, وكتعبير عن الضغوط الاجتماعية النفسية, واستشهد بهرم##ماسلوه## الذي وضعه ##إبرآهام ماسلوه## عالم النفس السلوكي الأمريكي الروسي الأصل والذي رتب فيه احتياجات الإنسان بترتيب تصاعدي حسب الأولوية بشكل هرمي. فالاحتياجات الموجودة في قاعدة الهرم هي احتياجات رئيسية وأكثر قوة مثل الهواء, الأكل, الشرب, السكن, الدفء, الجنس, النوم, إلخ
وهي الاحتياجات الأساسية للحياة, ويعلوها الاحتياج للأمان ثم الحب والانتماء ثم التقدير ثم احتياجات معرفيه, ثم الاحتياج للجمال وتحقيق الذات, ويعلوها عند قمة الهرم السمو والتفوق علي الذات, ومن المستحيل أن يلبي احتياج من مستوي أعلي بدون أدني درجة من تلبية احتياجات المستويات السابقة, ولهذا السبب كثيرا ما ارتبط العنف بالفقر المدقع والاكتظاظ السكاني, وعندما لا نستطيع الحصول علي احتياجاتنا الحيوية الأساسية من خلال وسائل عادية وسلمية, فلابد من التطلع لوسائل أخري يمكن أن تكون عنيفة, وهذا هو الصراع من أجل البقاء علي قيد الحياة.
تعظيم المشترك الإنساني:
وأكمل د/ خليل فاضل زميل الكلية الملكية للطب النفسي بلندن, وكاتب ومؤلف, قضايا المحور الأول بموضوع عن ##المجتمع المصري والعنف## فقال إن العنف في المجتمع المصري الآن ينجم أساسا عن خلل في البنية الأساسية للمجتمع, لا ينتج عن توترات وضغوط, ولكن عن إفقار شديد إلي مقومات العدل والإدارة والتنظيم والتخطيط والرعاية الاجتماعية, خاصة للطفل والمسن والمريض والمرأة, فإن لم تتوازن تطلعات الأفراد والجماعات مع ما يقدمه المجتمع من مكافآت وحقوق لا يحصل المواطن المصري علي أدناها في حالتنا الراهنة, تزيد الشقة والفجوة بين الرغبة وتحقيقها قد تدفع إلي العنف, أو تتجزأ الدولة باضمحلال الحكومة وتتحول إلي مقاطعات تتعنصر وفق رؤي معينة لتكوين دول صغيرة متناحرة.. فهل التشظي في مصر هنا سيكون مبنيا علي مفهوم بيئي, جغرافي, مادي, أم وفق مصالح فئات اجتماعية معينة؟
ويستدل علي ذلك د/ خليل بأن ذلك يتضح في تفشي الشعور العام بعدم الأمان لدي جميع الناس, بالإضافة إلي الإحساس العام بعدم النمو إنسانيا, وحضاريا في ظل حضارة الثورة التكنولوجية والفكرية وتقدم المعلومات الهائل ومدي مواكبتنا الفكرية لكل هذا.
وتحدث د/عاصم الدسوقي, مفكر ومؤرخ, عن ##ثقافة العنف وعنف الثقافة… نظرة من التاريخ الي الحاضر##, فقسم أعمال العنف في مصر إلي ثلاثة مستويات:
العنف الشخصي: أي المتبادل بين الأفراد بسبب الخصومات الشخصية والمصالح الخاصة, ولعل أبرزها من قديم الزمان الخصومات التي كانت تنشأ بين الفلاحين في الوجه القبلي خصوصا حول تنظيم الإفادة من نهر النيل في ري أراضيهم والتي أوجدت عادة الثأر كما يذكر جمال حمدان في كتابه##شخصية مصر##.
والعنف السياسي: والذي تقوم به جماعات منظمة تحت شعارات مختلفة ضد نظام الحكم القائم, ويدخل في هذا المستوي أشكال مقاومة المصريين للغزاة عبر التاريخ ابتداء من الفرس وانتهاء بالاحتلال البريطاني.
والثالث العنف الثقافي: فرديا أو جماعيا الناتج من كراهية جماعة ما لثقافة غير ثقافتهم, ومن مظاهر عنف الثقافة قتل الهوية كما حدث في لبنان في الحرب الأهلية ابتداء من عام 1975م, ثم في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003م, وفي إقليم دارفور بالسودان منذ عام 2004م, ثم أحداث الفتنة الطائفية في مصر التي آخرها ماحدث في نجع حمادي يوم عيد الميلاد 7 يناير .2010
ويري د/ عاصم أن الخروج من المأزق الاقتصادي وإحداث التوازن بين الصالح الخاص والعام في إطار نظام رأسمالي حقيقي, وليس في ظل مجموعة أصحاب أموال ووكلاء تجاريين, من شأنه إعادة استقطاب عناصر التطرف والعنف لصالح المؤسسة الشرعية الحاكمة, ويجعل العنف مقتصرا علي المشاحنات الفردية التي لا يخلو منها أي مجتمع مهما بلغت درجة ثقافته وتقدمه.
العنف الديني هو الأكثر شيوعا
وعن مؤسسات التنشئة والعنف تحدث كمال زاخر -كاتب ورجل أعمال- عن ##المؤسسة الدينية…التأويل النصي والخطاب##, وأحمد عبد الحافظ -صحفي بجريدة الشروق- عن ##الخطاب الديني وعلاقته بالعنف##.
قال زاخر أن الدين هو محل الاعتقاد والإيمان بالمطلق, ولذا فإن العنف الأكثر شيوعا هو العنف الديني (الطائفي), وهنا تتجه الأنظار إلي المؤسسة الدينية التي تري أن مهمتها الأولي هي حماية الدين وتوسيع دائرة المؤمنين به, ويدق الأمر في المجتمعات المتراجعة ثقافيا والمضغوطة سياسيا والمأزومة اقتصاديا, والتي يصبح للمؤسسة الدينية فيها ثقل في توجيه المجتمع كبديل واحد متاح – وذلك في غياب المشاركة السياسية- للحفاظ علي السلام والتوازن النفسي للمرء, وفي إطار ضعف المؤسسات الدينية التقليدية بدأت تتولد جماعات صغيرة تتمتع بروابط داخلية قوية تتبني العنف منهجا وطريقا, تناوئ المؤسسة الدينية الرسمية وتعادي أيضا التوجه المدني (العلماني) بكل مايحمله من سياقات مدنية وعلمانية وديموقراطية… من أجل بناء وتشكيل الهويات الدينية الأصولية. وفي ضوء ما يسمي بعولمة العنف أو عنف العولمة تلعب وسائل الميديا والاتصال دورا كبيرا في تدوير العنف وتعزيزه لهذه الكيانات الطائفية المغلقة, وماذا بعد؟ سؤال طرحه زاخر في نهاية حديثه لوضع حلول لإشكالية التأويل النصي فيقول: أنه بما أن الدين أحادي, أي يصعب الاعتراف بالآخر علي المستوي الإيماني, لذلك يجب العمل باتجاه تعظيم المشترك الإنساني بينهما, وترحيل الجدل الفقهي اللاهوتي إلي علوم الأديان المقارنة داخل دور العلم المتخصصة, أما الخطاب العام والمعلن فيجب أن يخضع لضوابط الدولة المدنية, باعتبار أن المؤسسات الدينية هي مكون فاعل فيها, وتخضع لما تفرضه مقتضيات الصالح العام ووحدة الوطن وسلامته, وفقا لمعايير المساواة والمواطنة, وهو أمر يخرج بنا من دائرة المؤسسة الدينية إلي دائرة دولة القانون.
وناقش أحمد عبد الحافظ إشكالية الخلط بين الخطاب الديني والسياسي مستشهدا باستعانة الحكومة المصرية برجال الدين في حث المواطنين علي اتخاذ مواقف معينة مثل تصريحات شيخ الأزهر بضرورة التصويت والمشاركة في فترة انتخابات مجلس الشعب, والتوعية بمخاطر ختان الإناث, وعلي الرغم من إيجابية هذه الأهداف, إلا أن الممارسات لا تتسق مع الشكل الحديث للدولة ووظائفها, وتتجلي خطورة سيطرة هذا الخطاب علي المجتمع والخلط بين الخطاب الديني والسياسي إلي تشكيل وعي وإدراك مشوه لدي الشباب الذي يصبح غير قادر علي ترتيب أولوياته أو النظر إلي حياته وتقييمها بشكل موضوعي. ولذا يجب أن يتم تعديل شامل للمنظومة التي يعيشها المصريون للتخفيف من العوامل التي تشكل العنف في المجتمع, وذلك من خلال فصل الخطاب السياسي عن الديني تماما, واستكمال منظومة التعديلات الدستورية لتتيح مساحة من الحراك السياسي وفتح فرص للشباب لخوض العملية السياسية مما يساعدهم علي تحقيق أهدافهم في أطر سلمية وتنموية.
تدهور معايير إدارة الاختلاف
وناقش المحور الثاني للمؤتمر: واقع العنف المجتمع أشكاله وأسبابه, وفيه تحدث ##م/ يوسف سيدهم## رئيس تحرير جريدة وطني, عن ##وسائل الإعلام الحديثة والعنف##, واستهل حديثه عن الإعلام باعتباره المرآة التي تعكس نبض المجتمع وتطوره والتغييرات التي يمر بها علي كافة الأصعدة, وفي عصرنا الحديث وبسبب ثورة الاتصالات يقول سيدهم أنه أصبح للإعلام دور مؤثر جدا, وعلي درجة من الأهمية تصل إلي حد الخطورة في كيفية رصد الواقع الذي يعيشه المجتمع, والصورة التي يتم بها نقل هذا الواقع للمواطن حتي إنه نشأت قضية جدلية في معرض البحث عن إجابة لسؤال مهم: هل الإعلام مسئول عن تفاقم مشاكل المجتمع, أم هو مجرد أداة رصد ورقابة, وفي بعض الأحيان علاج لهذه المشاكل؟
فالمنابر الإعلامية يمكن محاكمتها عن الترويج لسياسات مغلوطة, أو عن السكوت عن تجاوزات السلطة اتقاء لشرها, لكن أبدا لا يمكن محاكمتها عن فضح خطايا المجتمع وتردي سلوكياته وتفشي جرائمه, فهي تفعله في معرض رصد واقع المجتمع, سواء كان ذلك لتعرية الواقع بغية علاجه, أو للتهويل بغية الإثارة ودغدغة المشاعر.
ويكمل سيدهم: ولا يعني هذا أن الإعلام غير مشارك إطلاقا في الترويج للعنف… فإن الإعلام مسئول بدرجة ملفتة عن الترويج غير المباشر للعنف فهناك أدوات وسلوكيات وممارسات إعلامية ينبغي رصدها باعتبارها قنوات يدخل بواسطتها الإعلام إلي دائرة العنف, مثال:
إعلاء العنف: وهو المنهج الذي تتبعه بعض المدارس الإعلامية في تغطية الحوادث , في إعلاء قيمة العنف كوسيلة لتحقيق الهدف والتماس العذر لمرتكبيها, وهي بذلك ترسخ النموذج الذي تقدمه للمتلقي علي أنه نموذج يحتذي.
تردي أخلاقيات التناول الإعلامي: ويحدث عندما ينزلق الإعلاميون إلي مستنقع اللغة الهابطة أو الألفاظ المثيرة أو المشاهد الخليعة, وهم بذلك يرسخون مفاهيم مغلوطة تنعكس مع تكرارها وتراكمها علي السلوكيات العامة للمتلقين.
تدهور معايير إدارة الاختلاف: ويظهر ذلك في عنف القلم واللسان عندما يهاجم الإعلاميون بعضهم البعض أو يهاجمون الشخصيات العامة والمسئولين, وهم لا يدرون أنهم يخطئون مرتين: الأولي عندما يعتدون علي حرية الرأي والتعبير بينما هما ينادون بحرية الرأي والتعبير لأنفسهم. والثانية عندما يصدرون ذلك المناخ الأحادي غير القابل للاختلاف إلي المتلقين فيتسببون في تشكيل مزاجهم علي ذلك المنوال البغيض… ويختتم سيدهم حديثه ##لست حالما ولا واهما, وإنما أنا أتوق إلي منتج جديد له مواصفات وقيم الطبقة الوسطي, العمود الفقري لهذا المجتمع, والتي تآكلت ملامحها عبر نصف القرن الماضي… إنه المواطن المصري.
وتكميلا لمعاناة المواطن المصري عرض الباحث الاقتصادي ##عبد المسيح فلي## تطور العلاقة بين الاقتصاد والعنف قائلا أنه مهما تطورت مظاهر الحياة ثقافيا وسياسيا وتعليميا واقتصاديا, يبقي الإنسان الذي يشكل المجتمعات والدول والأقاليم والنظام الدولي, هو نفسه الإنسان البدائي, دائما يبحث عن السيطرة علي الموارد, وتعظيم أرباحه ومكاسبه, وهذا ما يجعل علاقته مع ##منافسه الإنسان## دائما مغلفة بالمناوشات والخلافات والمناورات والصراعات…بهدف السيطرة علي الموارد, وتعظيم الأرباح أيا كان المجال الجغرافي الذي يتحرك فيه سواء كان وحدة أو شركة أو مدينة أو دولة, أو حتي النظام الاقتصادي العالمي.
وعرض## د/محمد نجاتي علي## العنف الطائفي بين المادي والرمزي, فأوضح أن العنف هو رد فعل عضوي علي قمع خارجي مباشر أو غير مباشر, والعنف قد يكون ماديا بالإيذاء المباشر, أو عنفا رمزيا بالكلمة والإهانة والخطاب العنيف والتجريح والتهم الأخلاقية والاتهام بالإلحاد أو الكفر, والتمييز في الجامعات والمدارس هو أحد أشكال العنف الرمزي الذي بإمكانه أن يتحول إلي عنف مادي, فاللفظ العنيف قد يتحول إلي فعل مادي أعنف بسهولة, وأن ما يحدث في مصر الآن من فتنة طائفية وتقسيم المواطنين علي أساس ديني هو حصيلة إرادة سياسية وعمل منظم وإعلام موجه, فتحولت المؤسسات الدينية إلي أجهزة تعبر عن طائفة ما تعبيرا سياسيا.
وذكر ##د/ محمد عفيفي## رئيس قسم التاريخ كلية الآداب جامعة القاهرة, أن كلوت بك الذي عاش في عهد محمد علي رأي أن طبيعة المصريين تميل إلي الهدوء السكون, مما جعل عدد الثورات آنذاك قليلا, ورصد عفيفي أسباب تحول المصريين من اللاعنف إلي العنف من خلال طرح ثلاثة أسئلة, هل أتي ذلك التحول من نظام الحكم والسلطة في مصر؟ أم نتيجة سيطرة المفهوم الديني علي العقل الجمعي المصري؟ أم نتيجة غياب المجتمع المدني وتهميش دور الطبقة الوسطي؟
فتش عن اضمحلال الثقافة
وشهد المحور الثالث من اللقاء مناقشة العنف المؤسسي والذي قال فيه ##د/ محمد منير مجاهد## منسق مجموعة ##مصريون ضد التمييز الديني##, أن المواطنة هي العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليه من حقوق وواجبات, وهو ما يعني أن كافة أبناء الوطن الذين يعيشون فوق ترابه سواسية في حصولهم علي نفس الفرص والحقوق بدون أدني تمييز قائم علي أي معايير تحكمية, وأوضح أن جذور تغلغل التعصب الديني في منظومة التعليم ترجع إلي عام 1952م حيث وضعت الثورة أسسا جديدة للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين تمثل في نظام الحصص الطائفية أي الحصص للمسيحيين, وهي التي وضعت قانون إصلاح الأزهر الذي أسس جامعة مصرية قاصرة علي المسلمين, كما أنشأت إذاعة للقرآن الكريم….إلخ,
الأمر الذي أدي إلي اضمحلال الثقافة الليبرالية بعد الثورة واختفاء ثقافة التسامح, فالثورة أثارت عداء غير مبرر لجميع الأحزاب والساسة الذين هيمنوا علي الحياة السياسية قبل ثورة يوليو, والعداء لليهود والأجانب لمجرد أنهم أجانب, وبعد هزيمة يونية غابت المدارس الثقافية والفكرية التي تستطيع أن تقدم إجابات عقلانية علي الأسئلة التي خلفتها الهزيمة, وفي أعقاب حرب أكتوبر 1973م رحل مئات الآلاف من المعلمين إلي بلدان الخليج السعودية, ولما كان حظهم من الثقافة العصرية محدودا, فإنهم لم يقدروا أن يلعبوا دورا تنويريا في البلاد التي رحلوا اليها, بل الذي حدث أن تلك البلاد أعادت تربيتهم ليتماشوا مع الثقافة السائدة هناك, وحين عاد أولئك المعلمون احتلوا مواقع قيادية في وزارة التربية والتعليم, فاستماتوا في فرض الحجاب, والتمييز بين المسيحيين والمسلمين, والسماح للمنقبات بالتدريس خلافا للقانون, وإشاعة مناخ ديني متزمت عبر العملية التعليمية كلها. وأشار د/ منير إلي أن ظاهرة التمييز الديني في مناهج التعليم تتمثل في التأكيد علي أن الإسلام مصدر وحيد للفضائل, وتأكيد المرجعية الإسلامية لكل شئ عن طريق حشر النصوص الدينية, الأمر الذي أدي إلي ممارسة نوع من الفرز الطائفي في الجامعات المصرية, يتضح في انحسار الطلبة المسيحيين داخل مكان لأنفسهم يطلقون عليه ch وهو اختصار لكلمة كنيسة بالإنجليزية, فبدلا من أن ينصهر طلبة الجامعة في بوتقة واحدة ويكون شعارهم هو الوطن, ينفصلون تماما داخل الجامعة. وطرح د/ منير مجاهد التوصيات التي أطلقها المؤتمر الوطني الثاني لمناهضة التمييز الديني تحت عنوان ##التعليم والمواطنة## كعلاج للمؤسسة التعليمية, ومنها إعمال حزمة من التدخلات الإدارية الصارمة لاستئصال التخلف والتعصب الديني عن طريق: تطبيق معايير صارمة لتقييم أداء المعلمين, والتأكد من اجتياز المعلمين والمعلمات عددا من الدورات المؤهلة تربويا, ودمج المعاهد الأزهرية ضمن منظومة التعليم المدني تحت إشراف وزارة التربية والتعليم, وأن تعود جامعة الأزهر لتصبح جامعة دراسات دينية إسلامية يلتحق بها الراغبون بعد انتهائهم من التعليم الجامعي, ومراجعة كافة المواد الدراسية لتنقيتها من كل ما يعمق التقسيم والفرز الطائفي بين المواطنين المصريين, والتأكد من أن تدريس الأديان يتم فقط في المقررات الدينية في إطار أخلاقي مشترك ويساعد علي التسامح وقبول التعددية واحترام الآخر.
وعن العنف النوعي قالت ##إيفيت صموئيل## استشارية في مجال التنمية, أن المراة المصرية لم تصل إلي نتائج تساوي حجم ما بذل في الدفاع عن قضية المجتمع وقضيتها في آن واحد من جهد وما أنفق من مال, فلازالت المرأة المصرية التي نالت حق الترشيح والانتخاب في خمسينيات القرن الماضي لا يمثلها داخل المجالس النيابية المنتخبة إلا نسبة مخجلة , ولازالت ممنوعة من ريادة مناصب مهمة وحساسة مثل القضاء, أو رئاسة تحرير جريدة قومية, وإلي الآن وداخل دوائر الحكم من يجادل في قدرتها ومدي أهليتها لتولي مثل هذه المناصب, بل وتتعرض للعديد من أنواع العنف كالعنف الاجتماعي, والاقتصادي, والتشريعي, والعنف المبني علي توظيف الدين, والعنف الثقافي, والسياسي, والأسري.
وأنهي الصحفي يوسف رامز أعمال المؤتمر بورقة عمل شيقة عن الصورة الذهنية كمولد للعنف, أي منذ أن يبدأ كفكرة داخل الفرد أو مجموع الأفراد, مرورا بتمثيله ذهنيا وصولا إلي تحوله إلي عنف مادي بكافة أشكاله, والصورة الذهنية هي صورة متخيلة, يستكملها العقل, كما يستكمل أغلب الصور التي ندركها بهدف إكسابها معني, بغض النظر عن مدي منطقية هذا المعني, فلا ينبغي أن تكون الصورة الذهنية حتمية بالضرورة, وتتشكل الصورة التخيلية نتيجة مجموعة المداخلات الاقتصادية ( الشعور بالحرمان النسبي, وليس الفقر) والمتغيرات السياسية والثقافية وغيرها.ويمكن النظر لتطور العنف الطائفي في مصر نموذجا لتطور الصورة الذهنية للجماعة المصرية, فبمتابعة أسباب نشوء التوترات الطائفية في الثلاثين سنة الأخيرة نري تطورا أدي إلي انفجار أغلب الأحداث الطائفية بعد حادث الأقصر بسبب بناء الكنائس.
هل العنف مكتسب أم جيني؟
و طرحت الندوة العديد من الإشكاليات مثل : هل العنف مكتسب, أم جيني؟ فقر القدرة و علاقاته بالسلوك العنيف, الازدواجية بين ما هو مصرح به و ما هو معاش في علاقة الأقباط بالمسلمين, هل السلفية ظاهرة إيجابية من حيث كونها تدفع للتشبه بالسمات الإيجابية للسلف الصالح؟ أم هي سلبية من حيث كونها تحجب و تعطل النمو و التحرك نحو المستقبل ؟ قضية التوحيد و مدلولها….وهل هو إقصاء للآخر ؟.
وطالب الحضور بضرورة دعم الأبحاث الاجتماعية و النفسية حول : العنف كمفهوم, العنف داخل الأسرة من حيث تحليل الأسباب و ليس التجليات و المظاهر, ربط تأويل النص الديني بالعنف.
واقترح المشاركون حزمة من الحلول منها: تدعيم مفاهيم المواطنة و الدولة المدنية, الإصلاح الهيكلي للتعليم , إصلاح الهيكل الاقتصادي من أجل توفير الاحتياجات الأساسية .
وانتهت الندوة- وحسب ما ذكره أ/سليمان شفيق, صحفي وباحث, يظل العنف سمة غريزية إنسانية يبدأ من الذات و يتبلور في الأسرة الأبوية , و يتم تكريسه عبر المدرسة, و تقديسة عبر الثقافة الدينية ودور العبادة, ثم يشتعل مجتمعيا بفعل العوامل الاقتصادية والمجتمعية , وتظل الصورة الذهنية للذات و المجتمع تكرس البطل العنيف سواء في الفلكلور الشعبي أو الديني , و صورة الأب القوي والأم الضحية الأمر الذي يولد دائرة (الضحية و الجلاد) … ثم يسألونك لماذا العنف؟