تعني المصايف لدي غالبية المصريين العطلات السنوية ودق الشماسي علي الشواطئ, وتعني المياه والشمس والبحر والهواء والاستمتاع بمنظر القمر في ليالي الحر الشديد ومنظر غروب وشروق الشمس فوق صفحات مياه البحر, إضافة لليالي السمر واللهو متعددة الوجوه, وتعني كذلك الأصدقاء ولهو الأطفال وسعادتهم مع أسرهم, فلا مصايف دون تلك اللوحة مجتمعة.
ولأنه يوجد تفاوت طبقي يصفه الخبراء بأنه مخيف انعكس هذا علي المصايف وباتت توجد مصايف تتدرج من خمس نجوم وحتي سبع نجوم وأكثرها للطبقة المترفة التي شيدت منتجعات خاصة لها في أرقي الشواطئ الممتدة علي سواحل مصر المختلفة من شرم الشيخ بجنوب سيناء إلي سماء العريش في شمالها ومن مارينا في الإسكندرية إلي البحيرات المرة في الإسماعيلية والجونة علي ساحل البحر الأحمر.
في هذه الرحلة نسبح معا في بلاجات الأثرياء لننتقل معهم من مكان لآخر حسب الحقبة التاريخية وتغير أنماط عادات وتقاليد ومسميات طبقات المجتمع المصري.
وإذا تابعنا العلاقة بين الأثرياء والشواطئ نكتشف بسهولة أنهم يغيرون الشاطئ المفضل كل فترة, وهذه الفترة لا تطول لأكثر من عقد من الزمان.. وقبل أن يكتمل هذا العقد, يهرب الأثرياء إلي شاطئ جديد.
في الثلاثينيات والأربعينيات تمكنت عادة الاصطياف من المصريين, فقبل هذا التوقيت لم يكن الاصطياف طقسا ثابتا لدي الأسر المصرية.. واقترنت هذه العادة بأخري هي ارتياد المشاتي وكان المصيف الرئيسي لعموم الناس هو الإسكندرية بشواطئها المتعددة, أما المشتي الرئيسي ففي أسوان – أقصي الجنوب – بدفئها وشمسها التي تقهر الشتاء!
وفي الأربعينيات اتجه المصريون من النخبة إلي شاطئ المتنزه وشاطئ المعمورة بشرق الإسكندرية, وفي الخمسينيات والستينيات تحركوا إلي ستانلي وميامي وسيدي بشر شواطئ وسط الإسكندرية, وبعدها ارتحلوا غربا – أكثر – إلي شاطئ جديد وهو شاطئ مراقيا سرعان ما تركوه إلي الشاطئ الأشهر مارينا. بعدها بسنوات.
كانت مارينا بمثابة شاطئ النخبة التي عادت إلي العجمي ليزدهر مجددا. لكن هذا التحرك علي سواحل مصر, بحثا عن رئة جديدة, اقتصر علي النخبة وعلية المجتمع, ممن يملكون ترف التغيير.. يهجرون الشاطئ الذي كان مغلقا عليهم, ليتركوه للطبقة الوسطي!
في الماضي لم تكن ثمة شواطئ مغلقة في هذا الوقت إلا المتنزه شرق الإسكندرية شاطئ أسرة محمد علي الملكية الحاكمة – ولم يكن مغلقا كله وإنما جزء منه فقط.. وترك أغلبه للناس, وإلي جوار الملوك يأتي الباشوات والكبار رجال السلطة والمال ولم يحظ شاطئ مصري بوضعية خاصة في النصف الأول للقرن العشرين سوي المتنزه.
حدائق أنطونيادس
اكتسبت هذه المنطقة اسمها من البارون جون أنطونيادس, وهو من الجالية اليونانية التي أقامت في مصر بدءا من عصر محمد علي باشا (1805 ـ 1849), وهو رجل ثري كان من أكبر تجار القطن في مصر في القرن التاسع عشر, وفتن بقصر فرساي بحدائقه في باريس, فاستدعي في عام 1860 الفنان الفرنسي بول ريشار وطلب منه أن يصمم له قصرا علي غرار فرساي. واختار أنطونيادس هذه الحدائق مكانا لقصره.
وأوصي البارون أنطونيادس قبل وفاته عام 1917 بالتبرع بالقصر والحدائق للحكومة المصرية, وهو ما فعله ابنه الوحيد أنطونيو أنطونيادس فآلت للدولة وانتقلت ملكيتها من وزارة إلي وزارة حتي آلت إلي محافظة الإسكندرية, التي جعلتها وحدة تابعة لمكتبة الإسكندرية في عام 2004, وهي الآن تخضع لتطوير وترميم شامل – الحدائق والقصر جميعا في مشروع مشترك بين المكتبة ومؤسسة أوناسيس اليونانية, كلفته تبلغ نصف مليار يورو.
وكانت هذه الحدائق في الستينيات مقرا لحفلات أضواء المدينة الشهيرة, وأقام فيها عبدالحليم حافظ حفلات غنائية كبيرة وكانت هذه المنطقة أيضا قبلة المصطافين في الإسكندرية.
العجمي شاطئ الصفوة في السبعينيات
في الوقت الذي استوطنت فيه النخبة شواطئ المتنزه والمعمورة من الثلاثينيات إلي الستينيات, استوطنت الطبقة الوسطي والفئات الأدني منها شواطئ وسط الإسكندرية وهي أحياء سكنية يسميها السكندريون بأحياء البلاجات لكون شواطئها تتراص لمسافات طويلة من المندرة والعصافرة وسيدي بشر إلي ميامي وستانلي. وكانت هذه الشواطئ مفتوحة من دون رسوم حتي استأجرتها شركات متخصصة في سياحة الاصطياف, في أواخر التسعينيات, وقسمت كل شاطئ منها إلي عدد من الكازينوهات وفرضت رسوما. وبرغم اعتراضات عموم الناس علي هذا التوجه إلا أن هذه الشواطئ ظلت محلهم المفضل للاصطياف. فبرغم الرسوم إلا أنها بقيت رخيصة جدا بالمقارنة بشواطئ الأثرياء, تلك التي أغلقت تماما في وجوههم, وبات دخولها بـكارنيهات عضوية كالنوادي.
وبالرغم من أن العجمي كان معروفا كمصيف منذ الخمسينيات, غير أنه كان شبه مهجور, قبل أن ينتقل إليه الأغنياء والنخبة جماعيا في السبعينيات. منذ ذلك التوقيت صار العجمي متنزها جديدا للوزراء ولرجال الأعمال والطبقة التي حققت الثراء السريع في عهد الانفتاح الاقتصادي والفنانين.. الجميع شد الرحال إلي العجمي, وظهرت نعرة جديدة ضمن أعراض النمط الاستهلاكي الذي عم البلاد في السبعينيات.. فمصيفك يدل علي طبقتك الاجتماعية, مثلما تدل عليها سيارتك ومنزلك والحي الذي تسكنه ودرجة إتقانك للغات الأجنبية.. وجميعها أعراض لم يكن للمصريين بها عهد من قبل. لذا أصبح شاليه العجمي جزءا من دلالات الانتماء الاجتماعي في السبعينيات وإلي منتصف الثمانينيات.
في تلك المرحلة كان العجمي ينقسم إلي ثلاثة شواطئ, من الشرق إلي الغرب – وبالترتيب – البيطاش والهانوفيل وأبويوسف.. والأول ينقسم إلي أكثر من بلاج وهو أكثرها أناقة.
ولكن حين تسلل أبناء الطبقة الوسطي والأدني منهم إلي الهانوفيل وأبويوسف وشاطئ رابع أضيف للعجمي يسمي: أبوتلات, شعر الأثرياء وأهل النخبة بأن شاطئهم المختار يقترب من التحول إلي ستانلي أو ميامي آخر.. فقرروا النزوح إلي منطقة أخري.
الاستثمار السياحي في الثمانينيات
في هذه الفترة بمنتصف الثمانينيات تحديدا كان الاستثمار السياحي يزدهر بصورة غير معهودة. وفي المسافة بين محافظة الإسكندرية وبين محافظة مرسي مطروح أقصي الغرب التي تبلغ أكثر من 200 كيلو متر, تتخللها أبدع الشواطئ غير الآهلة بالمصطافين, بل غير المأهولة بالبشر.. إلا قليلا من قبائل البدو البسطاء.
سميت هذه المنطقة التي توجه إليها الاستثمار السياحي في مطلع الثمانينيات باسم الساحل الشمالي, وباعتها الدولة قطعة قطعة للمستثمرين بأرخص الأسعار, بوصفها أرضا مهجورة.. وأخذ كل مستثمر يحول قطعة أرضه إلي مصيف, وعرف المصريون لأول مرة اصطلاح القرية السياحية والمنتجع, وحين كان العجميون قلقين علي مصير مظهرهم الاجتماعي بعد أن تلوث نقاء شاطئهم, كانت هذه القري جاهزة لتحل محل العجمي.
عرف المصريون من أهل النخبة والأثرياء الاصطياف في سيدي كرير وشاطئ عايدة ومراقيا في النصف الثاني من الثمانينيات, وسرعان ما تحولت القري هذه إلي فرصة يريد الجميع الالتحاق بها, فارتحل الكل إلي أقصي الغرب, وصارت القري السياحية تنتشر في تلك الفترة وفي هذه المنطقة انتشارا بالغ السرعة.. حتي ظهرت مارينا.
فتنة مارينا
افتتن الأثرياء والمفكرون والساسة والفنانون بمارينا كما لم يفتتنوا بقرية سياحية أخري, وصار الانتماء لها جزءا من الانتماء لصفوة المجتمع.. واكتسبت مارينا قوتها من المصطافين بها, ومن كونها أول مصيف مصري لا يدخله سوي من يمتلكون فيه شاليه أو فيلا بعضوية وكارنيه منعا لتسلل من لا يرغب الأثرياء في وجودهم بينهم, وانتقلت حفلات أضواء المدينة التي كان مقرها المنتزه في الستينيات إلي مارينا وسميت باسم ليالي التليفزيون.
واختار الوزراء مارينا مستقرا لهم, ففي واحدة من أجمل مناطق مارينا ثمة مكان مخصص لاصطياف الوزراء عبارة عن امتداد ضيق يخرج من البر إلي البحر تحده جنوبا بحيرة ساحرة من بحيرات مارينا الصناعية, وتسمي هذه المنطقة بـلسان الوزراء.
وفكرة لسان الوزراء ليست خاصة بمارينا وحدها.. ففي الثمانينيات استوطن الوزراء وحدهم منطقة تمتد من البر إلي البحر في استطالة في أبوسلطان بالإسماعيلية وسميت أيضا بلسان الوزراء.. وكتبت عنها الصحف آنذاك كإحدي عجائب الدهر.
شرم الشيخ والجونة
ولأن الوصول لمارينا سهل بامتلاك المال, ولأن امتلاك المال وحده لا يعني الانتماء الحقيقي للصفوة, فإن هذه الصفوة أخذت تتشكك في الانتماء العرقي لمارينا أواخر التسعينيات في هذا الوقت, ازدهرت بصورة دولية شرم الشيخ علي ساحل جنوب سيناء. وإذا كانت أنشطة الحكومة تنتقل رسميا إلي الإسكندرية في يوليو بمقر الحكومة الصيفي ببولكلي بالإسكندرية وينتقل الوزراء معها إلي مارينا.. فإن الرئيس مبارك يفضل شرم الشيخ, ونسبة ضخمة من السياح الأجانب وقطاع من الأثرياء والساسة والفنانين.
أيضا ازدهرت الجونة, هذا التجمع المتاخم للغردقة علي ساحل البحر الأحمر, ويضم 8 جزر خلابة وأكثر من 6 فنادق علي مستوي عالمي, وتمتاز بالهدوء إذا ما قورنت بشرم الشيخ التي لا تهدأ حركة السياحة فيها طوال السنة, وتمتاز بإقبال الأجانب والأثرياء فيها علي ركوب القوارب ذات القاع الزجاجي التي تكشف لهم الأسماك والشعاب المرجانية في البحر.
إذن, فمن شرم الشيخ والجونة إلي مارينا والعجمي تمتد خريطة الاصطياف, التي تتغير كثيرا وفق رغبة النخبة في استبعاد من تريد أن تستبعده, إنها خريطة قفزت بهم من المنتزه إلي العجمي إلي سيدي كرير ومراقيا ثم لمارينا وللعجمي مرة أخري مع شرم الشيخ والجونة.