تأليف: أشرف أيوب معوض
الفولكلور القبطي هو أصل الفولكلور المصري سواء في الفنون القولية من غناء وأمثال وبكائيات وحكايات وألغاز أو البصرية كالرسم والنقش والوشم. والنحت والزخرفة وما إلي ذلك فالعامية المصرية وإن بدت كأنها فتات من تكسير العربية الفصحي علي ألسنة العامة إلا أنها لم تخرج من عباءة اللغة العربية الفصحي. بل كانت قائمة علي مفردات من اللغة القبطية باتت تتراجع يوما بعد يوم بحكم سيطرة اللسان العربي علي جميع مجريات الأمور في الحياة, لتحل محلها مفردات من اللغة الدارجة, ولكنها محملة بمعان تختلف عن معانيها الأصلية في القاموس العربي, إذ أن المفردة وإن كانت عربية فإن طريقة نطقها علي اللسان المصري حملتها مشاعر جديدة فما إن تكاملت العامية وباتت لغة حياة يومية حتي كانت قد حملت موروث مصر الحضاري والمعرفي والوجداني. الذي ما لبث حتي ظهر في البكائيات والمواويل وأغاني التخمير والبذار والري والحصاد والأفراح والموت والميلاد وكذلك الأمر بالنسبة للفنون البصرية, عصبها روح الثقافة المصرية القديمة يعلن عن هويتها المصرية حتي بعد استيعابها لتأثيرات ثقافية وافدة علي مختلف العصور في تاريخ مصر. وحينما نهتم بتقديم بحث أو دراسة عن الثقافة الشعبية القبطية فإننا بذلك نؤدي دورا وطنيا, إذ نحاول فهم واستجلاء المكونات التاريخية والاجتماعية والعقائدية للشخصية المصرية سواء كانت تدين بالمسيحية أو الإسلام إذ نحن في واقع الأمر أحوج ما نكون إلي هذا الفهم فالكثير منا يمارسون عادات ويشاركون في طقوس قد لا يعرفون حقيقة أصلها أو المناسبة التي فرضتها علي السلوك الشعبي في عصر من العصور ومعظم موالد أولياء الله الصالحين الذين نحرص علي حضورها بشغف تقدم لنا من الطقوس والألعاب والسلع المبيعة من الحلوي والحمص ومنتجات الحرف اليدوية وصانعي الأختام والأوشام. ووراء ارتباط الجماهير بكل هذا قصص وحكايات وتواريخ.
وهذه المظاهر ليست من الموالد الإسلامية وحدها, بل هي مظاهر رسمية موجودة بحذافيرها بشكل كامل في الموالد المسيحية مع اختلافات قليلة في طقوس الديانتين.
قدم لنا الباحث أشرف أيوب معوض في كتاب بعنوان: حول الثقافة الشعبية القبطية طائفة من ظواهر الفولكلور القبطي الخاص بالموالد المسيحية الحافلة بالمعلومات التاريخية والعقائدية والاجتماعية لا يعرف القارئ المعاصر شيئا كثيرا عنها مع أنها من صميم مصريته الخالصة, فيطلعنا البحث علي دراما يهوذا, تلك الدراما الشعبية التي حرص القبط علي إقامتها في يوم معلوم من كل عام هو يوم خميس العهد حيث يحتفلون في ساحة واسعة أمام الكنائس أو في داخلها بصورة متعددة من الطقوس يشارك فيها المسيحيون والمسلمون, لأن الثقافة الشعبية القبطية ثقافة عامة لكل المصريين, بدليل أن التقويم القبطي للشهور القبطية مازال فلاحونا يستخدمونه في مواعيد الزراعة والحصاد والدورة الزراعية وأوقات البرد والحر والرياح, وكذلك الأمثال الشعبية المرتبطة بهذه الشهور, بالإضافة إلي كثير من الألفاظ القبطية التي تجري علي ألسنتنا دون أن ندري أنها قبطية خالصة وهي كثيرة ومتشعبة في أمور حياتنا اليومية, لأن اللغة القبطية لغة مصرية وليست لغة مسيحية فحسب, بل يرجع الفضل الأكبر لكنيستنا القبطية في الحفاظ علي استمرارها حتي وقتنا هذا, إذ تتلي بها بعض القراءات والصلوات وتستخدم كنقوش في مخلتف الرسوم التعبيرية الخاصة بالمسيحيين, وفي تفاصيل هذا الاحتفال يقوم المشاركون بتمثيل مسرحية عتيدة يحفظونها جميعا بكل تفاصيلها الدقيقة, عن خيانة يهوذا, وكان ذلك موقفا صعبا علي من يقبل القيام بهذا الدور, لأن جميع المشاهدين لابد أنهم سيندمجون في الحالة فيغيب عنهم – من فرط التأثر – الوعي بأنهم يمثلون فينهالون علي ممثل شخصية يهوذا – باعتباره يهوذا الفعلي – باللعن والضرب والسب…. إلخ. الحقيقة أن انتشار الظاهرة ووجودها بالقرب من تجمع الباحث محافظة سوهاج مرورا بالقري القريبة منه مثل أخميم, أولاد علي, الكشح, طما, فرشوط محافظة قنا هو الذي دفع الباحث إلي تناولها في هذه الدراسة, وتسعي هذه الاحتفالية إلي تحقيق عدة وظائف أهمها: الإمتاع, حيث التسلية من خلال صنع خيال المآتة والدمية والرسم علي الجرة والأغاني التي تردد والموسيقي المصاحبة, إلباس يهوذا ملابس متعددة وسبه بصورة تمثيلية, هناك جانب آخر متعلق بالوظائف النفسية وحيلة الإسقاط باعتبارها حيلة لا شعورية تتلخص في أن ينسب الشخص عيوبه ونقائصه ورغباته المكروهة ومخاوفه المكبوتة إلي غيره من الناس أو الأشياء وذلك تنزيها لنفسه وتخفيفا عما يشعر به من القلق أو الخجل أو النقص أو الذنب وهو ما تحققه هذه الدراما الشعبية من خلال صورتين: أولا: كره الطبقة الشعبية لبعض الرموز ودلالاتها مثل القهر والظلم والتهميش والفقر, وهي في كرهها هذا تحاول أن تسقطها في صورة يهوذا والنيل منه, ثانيا: أن تنسب الطبقة الشعبية عيوبها ورغباتها ومخاوفها بل وخياناتها إلي شخصية يهوذا, ويؤدي هذا الإسقاط إلي أن تخفف من مشاعرها ودوافعها البغيضة وتعمي رؤية نفسها وما هي عليه.
علي دير العدرا.. وديني:
وفي الفصل الثاني يجري الباحث أشرف أيوب معوض دراسة ميدانية موسعة للأغنية الشعبية التي تغني في مولد العذراء مريم بجبل أسيوط ويقوم بتحليل هذه النصوص التي من خلالها يمكن الكشف عن مظاهر المولد القبطي ورصد تطور الأغنية الفولكلورية من خلال نصوص قديمة لم تبق إلا في ذاكرة العجائز ونصوص أخري حديثة روج لها استخدام التكنولوجيا من خلال شرائط الكاسيت, هذا إلي جانب الهتافات الشعبية للزائرين.
ومن أمثلة الأغاني الفولكلورية القديمة الشفاهية التي تحرص الجماعة الشعبية علي ترديدها أثناء زيارة مولد العذراء في كل عام ما يلي:
علي دير العدراء وديني** زاد فرحي والرب داعيني
أمدح فيك بصوت رنان ** يا شفيعة يا أم الديان
تدعيني وأنا أجيك فرحان ** علي دير العدرا وديني
أيا ريس وديني للعدرا ** وأنا أديلك من ندري شمعة
توضعها في بيتكم بركة ** علي دير العدرا وديني
هذه الأغنية الفولكلورية القبطية وغيرها إما أن تكون مستمدة قصصها من الكتاب المقدس أو سير القديسين ومعجزاتهم أو من التراث الديني المسيحي, ويأخذ الفنان الشعبي هذه القصص والحكايات ثم يضفي عليها حسه الشعبي ولمساته الفنية بما يتلاءم مع ثقافة مجتمعه الخارجي ومخيلة الجماعة التي يغني لها, والسمات الغالبة علي هذه الأغاني هي التأليف الفردي لا الجماعي, ويغلب عليها الخلط ما بين الفصحي والعامية.
* الميمر.. احتفالية شعبية قبطية:
فكرة تقريب الدين إلي الشعب تجلت بوضوح في عصر الفراعنة, فالاحتفالات الدينية الشعبية كانت موجودة في مصر القديمة, وكانت تؤدي من أجل هدف ديني أساسي هو تقديس الفرعون, وكانت تقام إما داخل المعبد بواسطة الكهنة مع مشاركة محدودة من الشعب أو خارج المعبد فكان دور الشعب فيها عظيما للغاية. مثال ذلك: موكب الإله آمون, موكب إيزيس وأوزوريس, موكب وفاء النيل, وفي مصر القبطية نجد الاحتفالات الدينية التي تتم داخل الكنيسة ويشارك فيها الشعب بصورة محدودة, وحين تخرج هذه المظاهر الاحتفالية إلي خارج الكنيسة فإنها تكتسب شعبية أكبر وحينئذ تسمي احتفالات شعبية قبطية مثل: عيد الشهيد أحد الأعياد القبطية القديمة, عيد الغطاس, عيد أحد السعف, الموالد القبطية, احتفالية أمير النيروز, احتفالية السبوع, أما الميمر فهو لون أو وزن من أوزان الشعر الشعبي المشهور في سورية والعراق, ومتداول في المحافل الريفية والأوساط الشعبية, وأول من قام بتنظيمه ابن ديصان ومن بعده القديس أفرام السرياني الملقب بـقيثارة الروح وهو أعظم شاعر كنسي في الأدب السرياني وتعد ميامره من أروع المنظومات وأرقاها, بالإضافة إلي الترانيم الروحية, والميمر يمكن أن يكون منظومة تقرأ أو تأتي أبياته علي نمط واحد من التقاطيع, وقد تصل أبيات الميمر إلي آلاف الأبيات, لذا يمكن أن تحمل مادة تعليمية متنوعة, وتعني الميامر أيضا حديثا أو بحثا أو خطبا أو عظة, ويعده البعض خطابا موزونا من الفن القصصي والملحمي الذي يتلي في الكنائس أثناء الاحتفالية ويضم روايات من الكتاب المقدس وسير القديسين وهي إما أن تكون شفاهية أو مكتوبة, وكلمة ميمر في صعيد مصر تعني سيرة, وأمسية فإن كان علي عائلة نذر لأحد القديسين تحتفل العائلة بدعوة الأقارب والجيران ومرتلي الألحان الكنيسة إلي سهرة يجلسون فيها في حلقة مستديرة يتوسطها من يقرأ ميمر أحد القديسين, ومن طقوس البركة علي مائدة الميمر عدة عناصر: القمح, الماء, الخبز, الشمس, الشموع, وهذه جميعا تصير مقدسة عقب الصلاة عليها من قبل الكاهن, فيسرع الحاضرون بأخذ حفنة من القمح من يد الكاهن لتبارك مخزونهم من القمح في منازلهم, أما الماء فيرش في أرجاء المنازل لإبعاد الأرواح الشريرة.
أغاني القدس.. حج مسيحي/ تقديس:
يرجع تاريخ زيارة الأقباط للأماكن المقدسة في القدس منذ اكتشاف الملكة هيلانة للصليب المقدس عام 325 ميلادية, وتأسيسها كنيسة القيامة واشتراك البطريرك القبطي أثناسيوس في تدشين الكنيسة مع بطريركي أنطاكية والقسطنطينية, وكذلك قصة مريم المصرية التي ذهبت إلي القدسم مع بعض المسيحيين لزيارة الأماكن المقدسة سنة 382 ميلادية وتحولت من إنسانة خاطئة إلي قديسة, واستقرت هناك وذاع صيتها, وبعد وفاتها تم تشييد كنيسة باسمها. والحج المسيحي أوالتقديس يعني زيارة الأماكن المقدسة الموجودة في القدس التي شهدت حياة وآلام السيد المسيح وسار في دروبها وذلك بهدف التبرك بها, ولا يعتبر الحج المسيحي فريضة كما في الإسلام, ومن عادات الحجاج في القدس: الاحتفال بأحد السعف, غسل الكفن في نهر الأردن, النور المنبثق من قبر السيد المسيح, زيارة الأماكن المقدسة, شراء الهدايا لأقاربهم من القدس, مشاهدة الجداريات الشعبية.
الوشم القبطي.. رمز ودلالة:
في هذا البحث يتناول الكاتب الوشم القبطي أحد أنواع التعبير الفني الشعبي, باعتباره فنا له دلالات عقائدية وفلسفية واجتماعية, وهو يرسم علي الجسد البشري بالإبر والمساحيق فيبقي مدي الحياة, ويرجع أصل الكلمة إلي اللفظ الإنجليزي تاتو أي العلامة المرسومة علي الجسد البشري, مشيرا إلي أنه ظهر بداية في الديانات الطوطمية وهي ديانات قديمة عرفها الإنسان البدائي وكان علي كل فرد أن يتخذ لنفسه طوطما أي شيئا مرادفا له من حيوان أو نبات ويصير شعارا له, وكان الاعتقاد السائد أن طوطم كل فرد يقوم بحمايته من الأخطار ويصير ممتزجا بفكره ودمه, وعندما دخلت المسيحية مصر بدأ الوشم يرتبط بالدين الجديد, وإن كانت ممارسة الوشم تعد شيئا مكروها من وجهة النظر الإسلامية, أما الوشم القبطي فله عدة أشكال مثل الأيقونات وصور القديسين, النقش علي الحجارة, الحفر علي الخشب, النقش علي العاج والعظم, التصوير علي الجبس والأعمدة والفسيفساء, التصوير علي الخشب والشمع.
الزواج المسيحي.. سر مقدس:
أخيرا يرصد الكاتب أشرف أيوب معوض في الفصل الأخير من الكتاب دراسة حول حفلات العرس القبطية يتناول من خلالها ما يتم من مظاهر احتفالية في الأفراح المسيحية بدءا من الخطبة حتي تأتي ليلة الحنة, يوم الزواج. الزواج في المسيحية هو سر مقدس للارتباط بين رجل وامرأة ارتباطا مقدسا علي يد كاهن شرعي, وبهذا الارتباط السري يصير الرجل والمرأة واحدا ليسا اثنين كما يقول السيد المسيح: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا, فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان (مت 19: 4-6). وللزواج في المسيحية غايات عديدة منها: نمو النوع البشري وحفظه بالتناسل حسب الأمر الإلهي: أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض (تكوين 1: 28), التعاون والتعضيد ومساعدة كل من الزوجين للآخر وفقا لقول الرب: ليس جيدا أن يكون آدم وحده فاصنع له معينا نظيره, لذلك خلق الله المرأة من ضلع آدم ليكون بينهما اتحاد طبيعي ويكون رباطهما قويا ويعيشا كل حياتهما دون انفصال, الغاية الثالثة تتعلق بتحصين الإنسان من السقوط في الخطية وكبح جماح الشهوة بالاقتران الشرعي لذلك قال بولس الرسول: حسن للرجل أن لا يمس امرأة.. ولكن بسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها.. ليس للمرأة تسلط علي جسدها بل للرجل وكذلك الرجل أيضا ليس له تسلط علي جسده بل للمرأة (كو 1: 7). ويتطرق الكاتب في سياق حديثه إلي أن أهم الشروط الواجب توافرها لعقد رباط الزيجة, ثم يتحدث عن سمات الزواج المسيحي وأهمها: وحدة الزيجة وهي أن يكون للرجل امرأة واحدة وللمرأة رجل واحد أي منع تعدد الأزواج أو الزيجات, خلقهما ذكرا وأنثي وأنهما ليسا بعد اثنين بل جسدا واحدا (مت 19: 4-8), عدم انفكاك الزيجة إلا لعلة الزنا التي تفسد وحدانية الزواج وتدنس قدسيته, ويتناول الكاتب مظاهر بعض الأفراح المسيحية قديما وحديثا ليثبت بالدلائل والبراهين الموثقة أن كثيرا من العادات التي تمارس في هذه الاحتفالات يتشابه فيها المسيحيون والمسلمون لأنها تنبع من تراث وثقافة شعبية وبيئة مصرية واحدة يتشاركون فيها.
الخاتمة:
تجولنا في هذا الكتاب الممتع مع الباحث أشرف أيوب معوض في أماكن عديدة كلها تدور حول منظومة ومظاهر الاحتفاليات الخاصة بالثقافة الشعبية القبطية.. وهي تراث مصري عام قديم وعريق منذ قرون طويلة. هذه الثقافة لا تعني ثقافة دينية أو مسيحية خالصة, بل هي تراث شعبي عام يتغني به كل المصريين, وهي جزء مهم ومؤثر في تاريخهم وحياتهم اليومية. فكل ما يحمله في طياته تكوين ثقافة حضارات متراكمة منذ عصور سابقة وحاضرة من العصر الفرعوني والقبطي والإسلامي أثرت في الوعي والتفكير أي أننا باختصار وببساطة قمنا بالغوص في داخل أعماق الشخصية المصرية الخالصة التي سبقت الأمم جميعا في كل أرجاء العالم بصفة عامة قاطبة إلي معرفة الأديان السماوية واستكشاف الطريق المؤدي إلي معرفة الإله الواحد, ثم احتضنت الأديان السماوية الثلاث المسيحية, الإسلام, اليهودية احتضان الأمم المرضع الرءوم لأبنائها.. حقا أفادنا الكاتب بإصدار جديد جدير بالقراءة والاطلاع عليه يأتي ضمن سلسلة الإصدارات والدراسات الشعبية الفولكلورية الشيقة التي قدمتها لنا الهيئة العامة لقصور الثقافة.