كنت أسمع في الأمثال الشعبية المصرية مقولة “العقل والدين يا رب”، فالعقل منحة إلهية جبارة، ليس فقط كجهاز معقد تتجلي فيه قدرة الخالق وإعجازه الفريد، ولكن أيضا حرية العقل هي المنحة الإلهية الكبري للإنسان، وعلي مدي التاريخ كبلت السلطات الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية العقل بكثير من القيود البالية لكي تستعبد الإنسان, فكل أشكال الإستبداد لا تخاف سوي من العقل الحر, فالحرية والديموقراطية الليبرالية والتنوير والمعرفة والحداثة والعلمانية والتسامح والكرامة الإنسانية والإبداع والتفرد والانفتاح وقبول الآخر بل والثورة كلها منتجات للعقل الحر المتمرد علي القيود, وفي المقابل فإن التخلف والجمود والعنصرية والإرهاب والدوجما وضيق الأفق وكراهية الآخرين والإستعلاء الديني هي منتجات للعقل غير الحر, المستعبد والمقيد بموروثات دينية أو نتاج استبداد سياسي أو تعليم فاسد أو ثقافة شيفونية أو مناخ اجتماعي مغلق ومتخلف.
كنت أتصفح مذكرات شخصية كتبها عالم أمراض السرطان اللبناني البارز الدكتور فيليب أديب سالم, الحائز علي جائزة الحرية من الكونجرس, ووسام كومانديتور من إيطاليا, وميدالية شرف آليس ايلند التي تمنح للشخصيات الكبري التي قدمت خدمة عظيمة للحضارة الأمريكية, وهو يتكلم عن عظمة وسلطان العقل حيث كتب في شهادته الثمينة ##في عيادتي أكون أقرب ما يمكن أن أكون إلي الله. هذه هي كنيستي, هنا أصلي طول النهار, مدي النهار, وصلاتي هي مشاركة المرضي في آلامهم وعذاباتهم, وبعث الآمل والحياة فيهم. هنا رهبة المسئولية, مسئولية الحياة والموت. وهنا رهبة القداسة,إذ إن القداسة تكون في الإرتقاء إلي فوق. بأن تنسي من أنت ومن تكون,وأن تعمل من آجل الآخرين,بأن تذوب الأنا,وأصبح أنا أنت. وفي عيادتي,أنت إنسان مهدد بالموت,وأنا إنسان طبيب اعمل علي سلخ الموت عنك وعلي بعث الحياة فيك. الله وحده قادر علي بعث الحياة,الا أن الله قد انعم علي الإنسان ومنحه العقل. هذا العقل هو شئ منه, وهو أعظم ما خلقته يداه, هذا العقل هو أعلي مراتب الوجود, ودونه لا يكون الوجود. لقد خلق الله العقل ليتمكن الإنسان من صنع المعرفة التي هي ضرورية للقضاء علي المرض والموت. والمعرفة دائما هي حالة ديناميكية متغيرة متطورة كل يوم, وهي تحدد ماهية الطب وعظمته, ودونها يصبح الطب شعوذة. وفي الطب ليس هناك شئ خارج المعرفة. وهنا أود أن اعترف أمام الله أنه في الواحد والأربعين سنة التي عشتها أستاذا وباحثا وطبيبا في معالجة الأمراض السرطانية,لم أر يوما مريضا واحدا تم شفاؤه من خارج المعرفة, ولم أر أعجوبة واحدة خارج أعجوبة العقل. هذا عن المعرفة,الا أن السر الذي قد يجهله الكثير من الناس والمرضي والأطباء هو أن المعرفة وحدها لا تكفي, فالمعرفة تحتاج إلي أشياء كثيرة ليتمكن الطبيب والمريض من الغلبة علي المرض والانتصار علي الموت. أهم هذه الأشياء أربعة: المحبة والرجاء والجرأة والنفس الطويل##.
في بعض الأوقات أتصفح الجديد في عالم التكنولوجيا واندهش كيف حقق العقل الإنساني كل هذا التطور المذهل في أقل من عقدين من الزمان, في عمر الأرض الذي مر عليه آلاف السنين,قرأت أنه خلال عدة سنوات سينتهي عصر الساتلايت والكابل حيث كل شئ سيكون عبر الإنترنت, قرأت عن جهاز تليفزيون انتج بالفعل سيكون قادرا علي التقاط ومضات من الأنترنت تستطيع نقل المحطات التليفزيونية من الإنترنت مباشرة بصورة شديدة الوضوح(هذا يختلف عن ال آي بي تي في الموجود بالفعل), قرأت عن تليفزيون آخر ستستعمله في معظم حوائجك: عليه يرن تليفونك وجرس منزلك ومتصل بكمبيوتر وبمحطات العالم كله,أي أن حياتك كلها تقريبا متجمعة أمام هذا التليفزيون, قرأت عن كتاب صدر في بريطانيا يقول أن الصحفي الذي لا يستخدم الفيس بوك والتويتر مثله مثل الصحفي الذي كان لا يقرأ الجرائد منذ عدة عقود.
كنت في جلسة مع صديق في مستشفي أمريكي شهير, وكنا نتحدث عن الخلايا الجذعية, وشرح لي قائلا إنه في خلال سنوات قليلة ستحدث ثورة في الطب لا مثيل لها من قبل تضاهي اختراع الإنترنت, نتيجة لهذه الخلايا الجذعية التي سوف تحل معظم المشاكل الطبية الكبيرة. واستغربت من أن الرئيس السابق جورج دبليو بوش كان يرفض تمويل أبحاث الخلايا الجذعية لأنه سلم عقله لخرافات دينية عقيمة تعادي العقل الحر.
لقد كذب الوهم والظن ولا أمام سوي العقل… والمعرفة قوة.