يقول طه حسين في نهاية مقاله الذي كتبه عن جوته باللغة الفرنسية بعنوان جوته والشرق: ولسوف تبقي دائما حقيقة لا يمكن لأحد أن يضعها موضع الشك. وهي أن جوته هو أول عبقري أوربي يحاول أن يقيم بين الشرق والغرب شيئا من الألفة الوطيدة. وقد نجح من ثم في إلغاء المسافات والفوارق, وفي تحقيق الوحدة الكاملة للفكر البشري. ثم يضيف طه حسين مختتما مقاله: ولما كنت أؤمن بالمثل الأعلي للتفاهم, فإنه يسعدني أن نقرأ من ديوان الشرق والغرب ما يلي:
إن من يعرف نفسه ويعرف الغير
لابد أن يدرك أيضا ما يلي
إن الشرق والغرب
لا يمكن أن ينفصلا بعد اليوم
إن ما جذب طه حسين إلي جوته إلي الحد الذي دفعه أن يعلن: إن جوته بما أنجزه من أعمال, هو بحق, الإنسان الذي نود تكريمه والاقتداء به, هو أنه وجد فيه المثل الأعلي للحوار الحقيقي بين الثقافات القائم علي الندية والتمثيل المبدع والتخصيب المتبادل بين ثقافة عربية وأخري أوربية. وهو ما قد حاول طه حسين من خلال دعوته إلي ثقافة البحر المتوسط التي تتمزج فيها الثقافتان المصرية والأوربية.
يقول طه حسين في خاتمة الفصل الخامس من كتابه مستقبل الثقافة في مصر: فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوربي فرقا عقليا قويا أو ضعيفا. ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الشرق الذي ذكره كيبلنج في بيته المشهور الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا يصدق عليه أو علي وطنه العزيز. ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل, وجعل بها مصر جزءا من أوربا, قد كانت فنا من فنون التمدح, أو لونا من ألوان المفاخرة. وإنما كانت مصر دائما جزءا من أوربا, في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافة, علي اختلاف فروعها وألوانها.
ويحدد طه حسين أهم نقطة من نقاط الالتقاء بين الثقافتين العربية والأوربية بظاهرة الحداثة, فيقرر أن أساس الحياة الحديثة, في كل من أوربا ومصر, هو فصل السياسة عن الدين. يقول: من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضي منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول. فالمسلمون أنفسهم منذ بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساسا للملك وقواما للدولة. وليس المهم أن يكون هذا حسنا أو قبيحا وإنما المهم أن يكون حقيقة واقعة. وما أظن أن أحدا يجادل في أن المسلمين أقاموا سياستهم علي المنافع العملية, وعدلوا عن إقامتها علي الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضا, قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة, حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق… فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلي أصل من أصول الحياة الحديثة وهو: إن السياسة شئ والدين شئ آخر. وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان علي المنافع العملية قبل أن يقوما علي أي شئ آخر. وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في أوربا. قد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطي وأقامت سياستها علي المنافع الزمانية لا علي الوحدة المسيحية, ولا علي تقارب اللغات والأجناس.
إن طه حسين يشير هنا إلي أصل من أصول التنوير وهو العلمانية. والعلمانية شرط ضروري لتحقيق حوار الثقافات الذي يقوم علي الوحدة والتماثل وليس علي الانقسام والتنافر. ويلزم من ذلك دعوة طه حسين إلي التخلي عن النزعة القومية الضيقة التي تفضي إلي التعصب والحروب, وإلي البحث عن رؤية حضارية شاملة تكون أساسا للتواصل بين الشعوب والدول, وتتماثل مع دعوة جوته إلي إقامة ما أسماه بالأدب العالمي الذي ينطلق من القومية لكنه يتجاوزها إلي رؤية عالمية شاملة تزيل الفوارق الإقليمية والعرقية والدينية بين الشعوب والثقافات من أجل اكتشاف معيار حضاري إنساني واحد يصلح لكي يكون أساسا لتلاقي الثقافات ولتحاورها. وقد كان بذلك يجسد جوهر التنوير من خلال ممارسة أهم مبادئه الأساسية وهو التسامح.
وهذا ما دفعه في بداية حياته إلي الانخراط في الثقافات غير الأوربية.
في عام 1827 كتب جوته إلي إكرمان قائلا: لم يعد للأدب القومي اليوم أية أهمية. لقد جاء أوان الأدب العالمي. ولم يكن جوته يقصد بالأدب العالمي المفهوم الشائع في عصره, بل علي العكس, إن الأدب العالمي, طبقا لجوته, لا يشتمل قط علي الأعمال العظيمة التي خلدها التراث ولكنه يشمل أيضا الإنتاج الأدبي الأقل أهمية ولكنه يعبر عن ظروف حياة ومعيشة نفس الأمة التي أنتجت الأدب العظيم, إن الأدب العالمي, علي حد فهم جوته, ينشد العالمية من خلال الخصوصيات المميزة لشتي أنواع الأعمال الأدبية, بما في ذلك الصحف والمجلات والدوريات الأدبية والسير والدراسات التاريخية. وترتبط هذه الرؤية بالضرورة بالترجمة من وإلي اللغات التي تنتمي إليها الآداب المختلفة. إن التنوع والانفتاخ والتغير شرط العالمية وهو في نفس الوقت من نتائجها.
إن نظرة جوته التطورية للأدب جعلته يطور دعوة هردر إلي النسبية الثقافية التي كانا قد استخدماها معا في دعوتهما إلي أدب ألماني قومي يعبر عن قضايا قومية,نقول يطورها إلي منظور أرحب وأشمل هو الأدب العالمي المشترك الذي هو محصلة هذه الآداب القومية بما يكشف عنه من نقاط التقاء إنسانية بين الآداب والثقافات المتنوعة. وهذا الأدب العالمي, علي نحو ما يراه جوته, له غاية اجتماعية وسياسية هي أن تفهم الشعوب بعضها البعض. هذه الرؤية التي كان يطرحها جوته لم تكن مجاوزة لمطلب العصر إلا من حيث تفاؤله في ألا تنتهي إلي الفشل كما انتهت هذه الدعوة في الماضي لأنها أفضت إلي الحروب والصراعات. ومن ثم ارتأي جوته أن المستقبل لا يكمن في العالمية المجردة ولكن في التركيز علي الخوصية في إطار كل حضاري مشترك واحد.
وهنا نود التنويه بكيفية نشأة فكرة الأدب العالمي لدي جوته. قد نشأ هذا المفهوم من فكرة جوته عن تأسيس فن وأدب قومي أصيل, ومن مفهومه عن المثال باعتباره نابعا من التجربة الإنسانية ومن الممارسة. ومعني ذلك أن المثال, طبقا لجوته, ليس فكرة قبلية يلتزم بها الأديب مسبقا وإنما يتصورها الأديب ويصوغها من وحي تجاربه الحياتية والفنية وهي لذلك تتسم بالصيرورة والتغير.
وتأسيسا علي ذلك نقول إن اتصال جوته بالثقافة العربية وبالإسلامية هو أبلغ تعبير عن ممارسة جوته لمفهوم الأدب العالمي فعلاقته بالإسلام مثلا كانت تقوم علي أسس شخصية انطلاقا من إيمانه بمبدأ التسامح الديني. إذ اكتشف جوته أن هذا هو المبدأ الذي يحدد جوهر الإسلام إلي الحد الذي دفعه إلي أن يعلن في ديوان الشرق والغرب, إذا كان معني الإسلام هو التسليم لله, فإننا نحيا ونموت جميعا علي دين الإسلام.
وفي مقاله المهم, علي الرغم من إيجازه, يكشف طه حسين عن معرفة وثيقة بفكر جوته وأدبه, وخاصة فيما يتعلق بنزعة جوته الإنسانية كما تتمثل في إقباله علي دراسة العهد القديم في بداية حياته, ثم القرآن في مقتبل عمره. يقول طه حسين: إن عكوف جوته علي دراسة نص العهد القديم قد أتاح له أن يكون لنفسه فكرة عن بدء الحضارة ونمو الحياة الاجتماعية والسياسية, وأن يشكل من ثم نزعته الإنسانية في صورتها الأولي. وكانت إنسانية بسيطة ساذجة ولكنها رفيعة نقية لأنها تستند إلي الكتاب المقدس. ولقد تطور هذا المذهب الإنسان واتسع نطاقه, ولكنه احتفظ دائما بذلك العنصر الإنجيلي أو بالإيمان الذي كان, في رأي جوته, شرطا لازما لكل حياة اجتماعية مثمرة.
إن أهم إسهام لجوته في إقامة حوار ثقافي بين الشرق والغرب, في تقدير طه حسين, هو أنه أول من قام بصناعة الشعر علي الطريقة الشرقية, مما يدل علي أن جوته لم يكن مجرد مقلد للشعر العربي أو الفارسي, ولكنه تعمق دراسة الشعر الشرقي وانطبع فكره بطابع يكاد يكون إسلاميا نتيجة قراءة الشعراء الفارسيين ولا سيما حافظ. فترتيب الأجزاء مطابق لديوان أي شاعر مسلم. كما وضع عناوين مشابهة لديوان الشعر العربي والفارسي.
بيد أن طه حسين يعيب علي جوته أن معلوماته كانت تفتقر أحيانا إلي الدقة بل إلي الصحة مما أثار استنكار الشرقيين. ومن ذلك مثلا أفضل جزء في الديوان, علي حد قول طه حسين, هو زليخة حيث يتغني جوته بحبه لماريان. فما زليخة إلا اسم لماريان, وما حاتم إلا اسم لجوته نفسه, ولكن حاتم في التراث العربي اسم يرجع إلي العصر الجاهلي ويشير إلي محارب مشهور بكرمه… أما زليخة فهو اسم لم يعرفه المسلمون إلا بعد ذلك بزمن طويل عندما عرفوا تفاصيل قصة يوسف. وهي ليست إذن إلا زوجة فوطيفار. والقارئ الشرقي لابد أن يستاء أشد الاستياء إذ يري حاتما يطارح زليخة الهوي. وخاصة إذا عرف أن صاحبة حاتم التي يعني بها في شعره أو فيما نسب إليه من أشعار كانت تدعي ماوية.
وفي تقديري أن طه حسين لم يفطن إلي ملمح رئيسي يميز فكر جوته ورؤيته, وهو المزج بين ما هو مقدس وما هو غير مقدس, أي علماني, في إطار مفهومة عن المثال. إن التنوع الذي يميز إنتاج جوته الأدبي والفكري نبع من نزعته الإنسانية التي كانت تري أن الإنسان هو محور الوجود, وأن الفعل الإنساني هو المحرك الأول لهذا الوجود. لقد امتزجت رؤية جوته الصوفية بنزعته الإنسانية فجاء إيمانه مزيجا فريدا من المقدس والعلماني. وقد تجلي هذا المنظور في تصويره لشخصية زليخة وحاتم في ديوان الشرق والغرب.
والغريب أن طه حسين يأخذ علي جوته نفس ما مارسه هو أيضا في كتابه في الشعر الجاهلي عندما طبق المنهج الديكارتي علي ثقافة مجتمع الجزيرة العربية وأدبها فردهما إلي جذورهما الحضارية وكشف بذلك عن السمات الثقافية المشتركة لكل من الثقافتين العربية واليونانية من حيث استخدام اللغة والشعر والأساطير. بيد أن طه حسين قد كتب هذا المقال عن جوته في مرحلة تراجعه بعد مصادرة كتابه الشعر الجاهلي.