إن العلة الكبري التي سقط فيها المجتمع البحريني هي تنامي ظاهرة الاصطفاف الطائفي وتمزق نسيجه الوطني التاريخي, الذي كان إرثا وطنيا حملته كل الحركات السياسية المعاصرة.
انتهي مؤخرا في البحرين مؤتمر للحوار الوطني تحت شعار الولاءات الوطنية فوق كل الانتماءات, وقد حضره ما يقرب من خمسمائة شخصية سياسية أهلية ورسمية, مثلت توجهات مختلفة في رؤاها, غير أنها اتفقت جميعا علي ضرورة الوحدة الوطنية وتماسكها والبعد عن كل الأطروحات الطائفية البغيضة, التي تخلق شرخا عميقا في النسيج الاجتماعي وتضع لبنة أولي لأسس الصدام الأهلي بين ذلك النسيج التاريخي والاجتماعي الذي عرفته البحرين ردحا طويلا, وتعايشت معه بالرغم من كل المتغيرات التاريخية والمحطات التي مرت بها سياسيا, خلال الحقبة الاستعمارية حتي يومنا هذا مرورا بفترة الاستقلال الوطني وبناء البحرين الحديثة, التي تعثرت تحولاتها واستكمالها لبناء تلك الدولة علي أسس المواطنة واحترام الدستور وقدسيته.
ما إن خرج المتحاورون من قاعة المؤتمر, حتي دوت ألسنة اللهب من جراء قنابل المولوتوف التي باتت ظاهرة جديدة تصاحبها ظاهرة الملثمين الشباب, الذين ينتمون إلي تيارات وتوجهات لا تؤمن بأهمية التراكمية السياسية والتحولات التدريجية في ظل المشروع الإصلاحي للملك, فوجدت في المولوتوف ذريعة للحلول العاجلة وسبيلا للتغيير وفرض كل شروط التفاوض وتحقيق مطالبها بالقوة, بعد أن شعرت باليأس والإحباط من أوضاعها وانهيار برنامجها العنفي واستنكافاتها, بعد أن شعرت بأنها تنعزل يوما بعد يوم في تأثيرها علي الحياة السياسية وحراكها الحيوي, داخل قبة المجلس الوطني وخارجها والنقاشات المفتوحة في المنتديات وعلي صفحات الجرائد, فما كان من تلك المجموعات والحلقات الشبابية الضيقة والمنظمة والمتأزمة نتيجة أوضاع لا يمكن تحقيقها دفعة واحدة وبعصا سحرية, خصوصا أن المشروع الإصلاحي وجد أمامه إرثا طويلا من الجمود السياسي والدستوري والفساد وتعثر التنمية, غير أن العلة الكبري التي سقط فيها المجتمع البحريني هي تنامي ظاهرة الاصطفاف الطائفي وتمزق نسيجه الوطني التاريخي, الذي كان إرثا وطنيا حملته كل الحركات السياسية المعاصرة, وبالمثل برزت موازية لتلك الظاهرة ببعد مذهبي الظاهرة القبلية, التي لم تكن تبدو في الفترة الاستعمارية بارزة بتلك البشاعة, وإن كانت الظاهرتان كامنتين تحت القشرة الرقيقة للمجتمع التي يسهل اختراقها بسبب التركيبة والبنية الاجتماعية والسكانية للمجتمع والدولة, ولعبت علي تعميق تلك الظاهرة, لشعورها بأن ذلك التفتيت يساهم في تمزيق الوحدة الوطنية, فارتد سهم الارتخاء السياسي للدولة عليها كونها لم تعالج الظاهرتين بعمق وجدية, والتي في حقيقتها كانت جزءا من مفاهيم وإرث استعماري عاش علي وتيرة وإيقاع تقسيم المجتمع علي أسس وولاءات طائفية وقبلية, حيث ظلت أحزمة ودفاعات وخطوط الولاء للدولة الريعية تعتمد علي تلك التشكيلات التي حمت متاريسها ومصالحها وساهم في بقاء المجتمع الواحد متباعدا.
ذلك النهج بدا في بداياته مريحا عندما لم تتأزم الأمور السياسية, ولم تصبح العملية القبلية والتشرذم مع بروز ظاهرة الإسلام السياسي, الذي تزايد وجوده مع ولادة الاستقلال الوطني للدولة, حيث صارت حاضنا جديدا لكل تلك الظواهر الطائفية منذ أفغانستان حتي إيران بمشروع تصدير الثورة والاستنفار الثوري. من ذلك الثدي تغذي تيار الطائفية والقبلية, ووجد استرخاء وتواطؤا من الدولة وانشغالها وتبسيطها للصراع في الجوهر, حتي تفشي السرطان الطائفي والقبلي في جسد المجتمع, وكأن البحرين لم تتقدم قليلا نحو الأسس الأولي لتشكيل المجتمع المدني.
نتيجة لتلك الاحتقانات الطويلة التي تم علاجها علي أسس من الترقيع المؤقت, فإن عودة التجاذب بين قوي المجتمع الطائفي والقبلي ظلت ممكنة ومحتملة, فجذوة الصدام العنيف كامنة ولم يتم اجتثاثها كاملا. ومع انطلاقة مشروع الملك الإصلاحي انفتح أفق جديد من الأمل والانفراج في تحريك ومعالجة تلك المسائل والملفات بفتح باب المشاركة السياسية, في هذا المناخ العربي والإقليمي والداخلي المهيأ للنيران والاستفزازات الطائفية والعرقية, وجدت البحرين نفسها مركزا للإثارة وأعمال العنف والاضطرابات وعملية الكر والفر التي يمارسها الملثمون, والذين حاولوا النيل من هيبة الدولة وتسامحها بخطاب القانون والحوار, ولكن سرعان ما أخفق ذلك النهج فانطلقت مرحلة المولوتوف كإرث للتسعينيات التي عرفت فيها قري وشوارع البحرين خطاب السلندرات وتفشي أشكال العنف والتخريب. فهل نستغرب أعمالا عنيفة من مستوي قتل رجل الأمن وحرق سيارات الشرطة والعبث بالاستقرار كما حدث أخيرا؟! متناسية تلك المجموعات الملثمة التي تتحرك وفق خطط وأجندة سرية من أجل فرض شروطها وبرنامجها ومطالبها بالقوة, إن الدولة وأجهزتها ليست بذلك العود الرخو والسهل كسره, إنما تمتلك أظافر حادة لا ينبغي تهييجها وإخراجها من صبرها وبصيرتها في التعامل مع الأحداث العنيفة المتناثرة هنا وهناك خلال الشهور القليلة المنصرمة, والتي عبر فيها شعب البحرين وقواه السياسية عن استنكاره, فليس بالعنف والتخريب تعالج الملفات, كما أن قنابل المولوتوف نتيجتها في نهاية المطاف تحرق من يحملها, فلدي أجهزة الأمن اليوم أسلحة أشد من تلك القنابل, فقد بات التفاف الشعب حول الحكومة بتجربته الجديدة من زمن الإصلاح, حقيقة لا يمكن التخلي عنها بسهولة.
نقلا عن جريدة الجريدة الكويتية