في معرض البحث عن النوبة بمركز محمود مختار الثقافي بالقاهرة.. يقدم الفنان فريد فاضل من خلال أكثر من 120 لوحة مرسومة بالألوان الزيتية والمائية وبالأقلام الملونة رحلة عبر الزمان والمكان, باحثا عن بلاد النوبة القديمة بجنوب مصر قبل أن تغرق أرضها في مياه بحيرة ناصر, والتي شهدت هجرات للداخل, أكبرها أثناء بناء السد العالي في عام 1964.
والمعرض يمثل تجربة فنية ذات خصوصية, ومشروعا توثيقيا لأرشفة منطقة النوبة بشكل علمي متكامل وجهد كبير, وظف فيه الريشة والصورة, من واقع معايشة وبحث في تاريخ وتراث بلاد النوبة.. إن أسلوبه شديد التميز استطاع تجسد البيت النوبي بجمالياته ونقوشه علي الجدران البيضاء, كقلب الشخصية النوبية الأبيض.. التقت وطني الفنان فريد وجاء اللقاء علي النحو الآتي:
* ما فكرة هذا المعرض؟؟ ولماذا البحث عن النوبة بالتحديد؟؟
- رغم أن النوبة غرقت تحت البحيرة ولكنها موجودة في قلوب أهلها ووجوههم وتراثهم الموجود للتأكيد علي مصر بهذا الجزء الأصيل والعزيز, واخترت النوبة بالتحديد لأنها منطقة شبه معقمة بمعني أنها مفصولة عن مصر بالجندل الأول وعن السودان بالجندل الثاني والجندل يمثل عائقا طبيعيا للملاحة فيحمي المنطقة من أي تغيرات, فلم تتلوث بل احتفظت بروحها من خلال شعبها الجميل صاحب التكافل الاجتماعي فلا وجود لشحات في النوبة كما يؤكد الكاتب إدريس علي ولم يكن أحد يبيع البيض ولا اللبن فمن يملك البقر يعطي من حوله, ولم ينم أحد جوعانا أو محتاجا, يعشقون النظافة والاتساع في المنزل, فالنوبة من الأماكن التي تلهم الكثيرين من الفنانين.
* لماذا تعتبر النوبة تجربة شديدة الخصوصية؟
- أرض النوبة تنفرد بالهدوء والسلام والتآخي والتكافل الاجتماعي والجمال الطبيعي والبساطة الشديدة والفضاء الشاسع, لقد منحتني النوبة كل مفردات المدينة الفاضلة لأحلق بعيدا في أحلامي الفنية, أسلتهم منها البلدة القديمة والنيل وحكايات الأجداد, وتتمثل أمامي مثل درر منفرطة, تسكن بين فراغاتها شحنات الخيال, وهبتني طاقة غير عادية أخرجت فيضا لا ينقطع من الإبداع.
* ما أهمية هذا المعرض.. وهل هناك رسالة تريد توصيلها من خلاله؟؟
- لم أقدم جديدا فيوجد الكثير من المهتمين بالتراث النوبي, واللوحات تسلط الضوء علي تراث الحضارة النوبية العظيمة منذ 50 عاما حينما أقام د. ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق الاحتفالية النوبية, والمعرض احتفالية شاركت فيها فرق الفلكلور النوبي والزفة وفيلم تسجيلي عن إبداعاتي يوضح كيف تأثرت بالنوبة إخراج أ. كريم مكرم حنين في حضور لفيف من الأدباء والكتاب والفنانين النوبيين وغيرهم من المهتمين بالتراث والحضارة, وأتمني أن تكون هذه الاحتفالية فرصة للبحث عن هذا التراث أكثر من ذلك فيوجد الكثير من الشباب النوبي لا يعرفون لغتهم المحلية كالكاديكي والكنزي وهذا الاندثار خطير جدا لأن فقد المكان يمكن أن يؤدي لفقد الإنسان.
* إحساسك بالإنسان النوبي عال جدا وليس مجرد عمل فني فقط.. ما الذي ساعدك في هذا الأمر؟
- أجمل شيء أن يعيش الفنان الحالة الداخلية لموضوع فنه وينفعل به فيستطيع أن يخرج حالة خاصة, فمثلا عاش أهل النوبة قبل التهجير حالة من الخوف من الدمار والموت الناتجة عن توقع الفيضان العظيم, وفي فترة التهجير وما بها من معاناة, وهنا كان التفاعل ليس مع مجرد الشكل الخارجي للوجوه والمباني وطبيعة النوبة ونيلها وإنما مع الجوهر والروح الداخلية والمشاعر لكل هذه الأشياء مجتمعة, وساعد في هذا احتكاكي بالأدباء النوبيين ومن عاصر النوبة القديمة في فهم كيف كان شكلها بالإضافة إلي قراءة التاريخ ومصادر أخري.
* ما المصادر التي رجعت إليها للخوض في هذه التجربة الفنية؟
- كانت البداية عندما رسمت أكثر من موديل نوبي لمعرض بأمريكا سنة 1997 ولاقت نجاحا كبيرا, ثم سافرت لأسوان لمعايشة الواقع في المكان وأهل المكان ولم أذهب لأماكن التهجير بل لبعض الجزر التي مازالت محتفظة بسمات أهلها مثل جزيرة هيسة وقري غرب أسوان وأبوسمبل كفر غرب سهيل, فاستطعت أن أجسد في بلاد النوبة الشهامة والنقاء والصفاء والطبيعة الجياشة وتدفق نهر النيل فرسمت بورتريهات لشخوص كثيرة, والمصدر الثاني بعض الصور القليلة المنشورة التي رسمت لتسجيل مظاهر الحياة قبل التهجير, والمصدر الثالث الموديلز النوبيات بالقاهرة والإسكندرية ذوات الجمال الآخاذ مثل الفتاة بسنت وهي من أجمل فتيات النوبة التي اخترتها كغلاف للكتيب وللبوستر وللأفيش الخاص بالمعرض وأسميت لوحاتها ملكة جمال النوبة 60*80 سم زيت علي قماش, كما استخدمت ورق الذهب والزخارف ومواد أخري.
أما المصدر الرابع فيتمثل في القصة والأدب والتاريخ وكان اللقاء بالكثير من الكتاب والشعراء والأدباء النوبيين وقراءة مؤلفاتهم مثل قصة جبال الكحت والدوماندو للكاتب يحيي مختار, وقصة النوبي ودنقلة للكاتب إدريس علي, مجموعة حجاج أدول القصصية الرائعة ليالي المسك العتيقة وخور رحمة للكاتب حسن نور, وبما أني طبيب عيون فلدي مرضي كبار في السن عاصرو النوبة القديمة قبل التهجير لتكوين صورة بانورامية في ذهني, فعرفت منهم كيف عانوا في ذلك الوقت العصيب وتحدثوا عن أشياء اندثرت الآن مثل صوت الساقية لوحة الإيسكالية 60*80 سم زيت علي قماش, ومثل البيوت النوبية الواسعة وما بها من مسميات كالحوش السماوي والمندرة والمضيفة والمزيرة والنقوش التي تزين البيت من الداخل والخارج بأشكال هندسية كالمثلثات والتماسيح والعقارب والإيمان ببعض الغيبيات, وقد اختفت كل هذه المظاهر من بيوت التهجير الضيقة.
* في لوحة النوبة تتنفس تحت الماء صف لنا كيف تفاعلت مع مصادرك لتصل إلي ما تصبو إليه؟
- في رحلاتي لأبوسمبل وبحيرة ناصر شعرت وكأني أحفر من فوق بلاد النوبة القديمة لأنها جغرافيا أسفل مني فخرجت مني طاقة كبيرة لا أستطيع وصفها إلا من خلال أعمالي, وعندما شرحت للكاتب حجاج أدول تصوري عن لوحة اقتبس لها عنوان كتابه النوبة تتنفس تحت الماء, وسألته عن رأيه فأجاب: علي أد ما هي رائعة إلا أنها تؤلمني لأننا موجودون فعلا في قاع البحيرة.. إحنا دلوقتي شخوص تتحرك ولكن إنسانيتنا النوبية الحقيقية هي التي سترسمها أنت إن شاء الله.. وبعد لقائي بالكاتب حجاج أدول اختمرت في رأسي فكرة اللوحة وكانت علي قماش 80*100, ولكنني علي خط موازي للإبداع التشكيلي كتبت قصة قصيرة بعنوان الجنية أستلهمتها من عالم تحت الماء.
* المزج بين الشعر والرسم كان بشكل مكثف في هذا المعرض.. ما تعليقك؟
- الشعر والقصة القصيرة تأتي في معرضي دائما علي خط موازي للإبداع التشكيلي.. ولكن جاء الشعر بشكل مكثف في هذا المعرض عن المعارض السابقة والذي ارتبط بلوحات الكرج (طبق ملون من نبات الخوص), ولوحة عن جريب وهي تمثل حلم التهجير, ولوحة البلد القديمة وفيها تجلس طفلة إلي جوار جدها, فأصدرت كتابا أحكي فيه بالشعر والقصة أبطال كل لوحة تقدم خلفية مفصلة عن تاريخ بلاد النوبة وآثارها وفنونها.
* تميزت في استخدام الضوء لإبراز جماليات في اللوحة.. فما سر هذا التميز؟
- فن التصوير مسطح أو ثنائي الأبعاد وهنا تتأكد أهمية الإضاءة لأنها تعطيه البعد الثالث وقد تعلمت كثيرا وتأثرت بفناني المدرسة الهولندية والفلمنكية العظام التي تعتبر واحدة من أكثر الظواهر الملحوظة في تاريخ الفنون البصرية في الإضاءة الرائعة مثل رامبرانت, وبرمين الذي استطاع الوصول إلي درجة كبيرة من الواقعية عن طريق الإضاءة قبل اختراع آلات التصوير لأنه استوعب كيف تري العين, إننا في كثير من الأحيان نرسم ما نعلم وما نعرف وليس ما نري, ومن المفترض أن نخلص أنفسنا من المعرفة المسبقة حتي نكون مخلصين أكثر لما نرسم.
* مرت النوبة الجميلة وأهلها الطيبين بفترات عصيبة من التهميش والإهمال بعد التهجير.. كيف عبرت عن هذا الصراع في أعمالك؟؟
- عاني الشعب النوبي الكثير من ويلات التهجير نفسيا ومعنويا وثقافيا, فيغني النوبي للنيل ويقول له: يا مصدر الحياة كيف طاوعتك نفسك أن تدمرها؟؟ كيف يا من تهبنا الماء والغذاء صرت مصدر تعاستنا حتي هجرنا البيوت والحقول وقبور الأجداد.. كل شيء ابتلعته ولم نستطع الوقوف أمامك.
فالنوبة ألهمتني بمعين لا ينضب من الإيحاءات والقصص بل وحالات النشوة والتصالح مع النفس, وأحيانا الغموض الصامت يلفه الحنين للماضي والصراع مع طبيعة قاسية تراها في ملامح أهلها أناس طيبين ذوي بشرة سمراء وملامح دقيقة.. وجوه لوحتها الشمس وملامح الأسي تعتريهم خاصة كبار السن, بسبب عمليات التهجير التي تعرضوا لها لوحة عم عبدالهادي 28*38 سم جواش وأوراق ملونة ولوحة شاب نوبي 50*80 سم زيت علي قماش ولوحة نوا 50*70 سم زيت علي قماش وأجساد نحيلة تعيش علي الكفاف وترتدي الجلاليب البيضاء والعمم الكبيرة, وطبيعة جميلة يتصالح معها أهلها في احتفال يومي بالطبيعة وحب الأرض والنيل في مشهد مفتوح بألوان السماء الصافية وأشكال الصخور اللامعة في اللوحات الرقصة النوبية 60*80 سم زيت علي قماش, زفة النوبة 70*100 سم زيت علي قماش.
* التفكير في التهجير عبرت عنه بلوحة بديعة ما الرسالة التي تريد أن توصلها من خلال اللوحة؟
** التهجير لوحة عبارة عن تجسيد لفكرة عدم التصديق أو الشك في الوعد والأمر غير محسوم النتائج.. هي لوحة 70*50 سم زيت وخامات متعددة كالخيش والزخرفة بقطع من الخشب في الإطار وطبق من الدوبار الحبال وقطع من الخيش علي الخشب وهي عبارة عن صورة فتاة نوبية تفكر في حيرة وخوف من المجهول وفي ذعنها تساؤل مفاده: هل سيكون لنا منزل كبير في المكان الجديد؟؟ ويمثله طبق الكرج الدائري علي يمينها من الدوبار الملون بزخارف نوبية يخرج من هذا التساؤل دوبارة مائلة يسير عليها مركب من الخشب والخيش في اتجاه طبق آخر علي يسار الفتاة به شكل للمنزل القديم قبل التهجير.. إنها تحلم بالأمان والسكينة والاستقرار في منزل مماثل فسيح له طابع معماري مزخرف ومميز؟؟ فقد وعدوهم بنعيم الجنة؟؟ فهل يتحقق الوعد؟؟ ولكن هل تتحقق أحلامنا دائما!!
* كيف عبرت برشتك عن البيئة النوبية وملامح الحياة الشعبية النوبية وعن صفات أهل النوبة الجميلة؟
- تستدعي النوبة كما هائلا من الخيال, فقد خلقت علاقة بين الإنسان والمكان حالة فريدة, فالنوبي كائن نيلي بطبيعته, يسكن بحزاء النهر ويتعمد بمائه وليدا, ويلعب ويسبح عاريا مع رفقائه, ويغتسل فيه يوم عرسه, والمرأة تذهب للنهر كل يوم لتستقي منه وتملأ الأزيرة, فهو مصدر الحياة وشريانها الرئيسي لبلاد النوبة, ولهذا عبرت عنه بعدد من اللوحات مثل لوحة القوارب الشراعية للصيد والتنقل في لوحة رحلة بوادي حلفة 40*50 سم زيت علي قماش وغيرها.
كما رسمت العديد من اللوحات تعبر عن مشاهد للقري النوبية, ببيوتها ذات الطابع المعماري المميز, والرسم علي الحوائط والواجبات, والزخارف الملونة التي تستلهم عالم الطيور والحيوانات من البيئة, جنبا إلي جنب مع دوائر ومثلثات وأشكال هندسية مميزة.
وهناك لوحات تجسد ملامح الحياة الشعبية النوبية ومظاهر الحياة العادية في أرض النوبة القديمة, من احتفالات وأفراح ولعب أطفال, حتي مظاهر الحياة العملية للفلاح في لوحة الإسكالية أو الساقية 60*80 سم زيت علي قماش وكانت تستخدم كطريقة من طرق الري للأماكن الأكثر ارتفاعا وكانت مختلفة عن باقي سواقي مدن الصعيد لأنها ذات طراز روماني تتكون من ثلاث سواقي علي ارتفاعات مختلفة حتي تصل المياه للأرض.. ونظرا لتكلفتها الباهظة كانت تشترك فيها أكثر من أسرة ينظمون أوقات الري بينهم ويتركون فرصة للفقراء ما بين حصص الري, وكانت الزيجات بين الأسر المشتركة في نفس الساقية لأنها تحافظ علي المال والملك مما أدي إلي ترابط أسري قوي.
وكذلك الأعمال اليدوية للنساء مثل صناعة الكونتيه أو أطباق الخوص في لوحة نوبيات يعملن 70*100سم زيت علي قماش ولوحة صانعة الكونتيه 40*50 سم ألوان مائية وعن الفلكلور المتمثل في الأغاني والرقص فجاءت لوحات رقص الكف 70*100 سم زيت علي قماش ورقصة الأراجيد المميزة, والفرح النوبي وزيارة الأضرحة في الأعياد والموالد, جزءا من التراث النوبي.
وفي النهاية يشكل هذا المعرض قمة إبداع الفنان فاضل الفني حيث إنه معرض جاذب كما وكيفا, وتبدو فيه موهبته وتمكنه من ريشته وألوانه, صاحب الواقعية التعبيرية التي تسجل حركة الحياة, مع إضافة أحساسيه ومشاعره, ويتضح ذلك في زوايا الكادر والمشهد.