الإنسان بطبعه كائن حي اجتماعي, وبالتالي يقاس الإنسان السوي بمدي تعامله مع المجتمع وقدرته علي التعامل مع الآخرين… وعندما ينعزل الإنسان عن الناس, ويفضل الجلوس بمفرده فهنا تكمن المشكلة, لأن مشكلة الانطواء تمتد لتشمل النشاط الإنساني كله.
فما الشخصية المضطربة, وصفات الشخص المنطوي ومظاهر الانطوائية في الطفولة وأسبابها, وكيفية علاجها؟
هذا هو محور حديثنا هذا الأسبوع مع د.كلير فهيم استشارية الأمراض النفسية والعصبية حيث قالت:الشخصية المضطربة هي التي تفضل الهدوء والعزلة وتفضل الحياة المنزلية مثل القراءة وممارسة الموسيقي والرسم ولا تميل إلي الاختلاط بالناس… والشخص المنطوي حساس للغاية, وغالبا ما يميل إلي التأمل في نفسه, وقد يؤدي الانطواء الشديد إلي الانحراف في التفكير وتوقع الفشل, ولذلك لا يرغب في إسناد أية مسئوليات إليه خوفا من عدم قدرته علي تنفيذها, كما يخاف الناس ولذلك يفضل تجنبهم وعدم التعامل معهم.
ليس معني ذلك أن المنطوين فاشلون, فهناك منطوون لكنهم موهوبون في أعمال فردية كالرسم والموسيقي والقراءة, أما الأعمال الجماعية فلا يفضلونها!.
من صفات الشخص المنطوي أنه قليل الأصدقاء, لا يكون سلسا معهم, يشك في نواياهم أحيانا, وينعزل عنهم في معظم الأحيان, ونادرا ما تروق له شخصية يستريح للتعامل معها, يعيش في عالمه الخاص, يفضل الخيال والأنشطة الفردية والتحفظ والانطواء علي الذات, يعاني من انعدام القدرة علي التعبير عن المشاعر والشعور بالمتعة, بحيث يظهر أمام الناس بصورة الذي لا يبالي بشئ!.
هذه الشخصية المنطوية لا تصلح للعمل الجماهيري مثل الخطابة والتمثيل والعلاقات العامة بحيث يعجز دائما عن التعبير عن آرائه بأسلوب جذاب.
يلاحظ أن بعض الأطفال يعانون من الانطواء والخجل, يعتمدون اعتمادا كاملا علي والديهم ويلتصقون بها دائما, تظهر كل هذه العيوب واضحة حين يبلغ الطفل سن المدرسة وهي السن التي يجب أن يتصرف فيها مستقلا… ومن المفروض عندما يصل إلي هذه السن أن يكون مهيأ لأن يكون مستقلا ومستعدا لمواجهة المواقف المختلفة… ولكن الذي يحدث أن تجد الأم نفسها في مواجهة طفل خجول, خائف, متردد, منطوي, ملتصق بها ويمسك بطرف ثوبها دائما, ويعجز تماما عن الوقوف موقفا إيجابيا في حياته الجديدة.
أبرز أسباب الانطوائية في الطفولة هي:
* أسباب تربوية: تتلخص في تدليل الأسرة للطفل, وتركيز الوالدين علي تجنيبه أية مشكلات ويحيطونه برعاية مبالغ فيها بدافع خوفهم عليه, ولا يتركونه يتعلم عن طريق الخبرة, بل يقدمان له خبرتهما في كل شئ, فينشأ الطفل مدللا غير قادر علي مواجهة المواقف بمفرده, غير قادر علي التعامل مع الناس, فينسحب من المجتمع مفضلا العزلة… بالإضافة إلي اتجاه الأسرة نحو تنشئة الطفل نحو المثالية فتحرمه من ممارسات الحياة الطبيعية كطفل. ويعلقون علي تصرفاته وينتقدون كل كلامه أو عقابه إذا أخطأ, أو يوبخونه إذا فشل, فينشأ شخصية مهزوزة غير قادرة علي تحمل المسئوليات, وبالتالي تكون النتيجة الانسحاب والعزلة خوفا من النقد أو اللوم… الأكثر من ذلك قسوة الأب, لأن الأب الذي يسلك سلوكا عدوانيا في البيت مع الزوجة والأبناء يسبب مخاوف غامضة للطفل, ويشعره أن من واجبه أن يكون مستعدا دائما للدفاع عن نفسه ضد العنف والعدوانية والخشونة, لأن العراك المستمر بين الأب والأم يشعر الطفل بعدم الأمان ويخيفه من العدوانية التي تهدده, وبالتالي يميل إلي الانطواء والخوف من الاختلاط بالآخرين…
من ناحية أخري يلاحظ أحيانا أن يصل خوف الأم علي طفلها لدرجة منعه من الاختلاط واللعب مع الأطفال الآخرين, خوفا عليه من تعلم بعض السلوكيات غير المرضية, أو تعلم بعض الألفاظ غير اللائقة, فيصبح الطفل منطويا مفضلا العزلة, ويخشي الاندماج في أي لعبة مع الأطفال الآخرين, وينمو هذا السلوك في داخله إلي أن تظهر مساوئ هذا الاتجاه حين يصبح في مرحلة يشعر فيها برغبته وحاجته إلي الاختلاط, وعدم قدرته علي تنفيذ ذلك فيصاب نتيجة لذلك بالقلق النفسي والاكتئاب والشعور بالنقص وعدم الرضي عن نفسه وعن الآخرين, ويبدأ الشعور بالملل والنفور من الحياة وكراهيتها… كل ذلك يرجع إلي الانطواء الذي غرست جذوره في الطفولة, والذي يؤدي إلي عدم الثقة بالنفس والأنانية وعدم القدرة علي الاعتماد علي النفس ومواجهة الحياة.
* أسباب بدنية جسمية: فمن الأمور التي تجعل الإنسان ينسحب من المجتمع وجود عاهة أو عيب جسمي يجعل صاحبه يخجل من مواجهة المجتمع… كذلك أصحاب الأجسام الضعيفة أو قصار القامة أو الذين يعانون من ضعف السمع أو يتلعثمون في الكلام, كل هذه المتاعب التي يعاني منها الإنسان ربما تكون محل سخرية أو نقد أو نفور الناس منه, مما يدفع المصاب إلي العزلة عن الآخرين تجنبا لهذه المشكلات وتفاديا للألم الذي يشعر به.
* أسباب نفسية: عدم الثقة بالنفس من أخطر الأمور التي تجعل الإنسان يتفادي اندماجه في المجتمع… ففي مجال العمل يكون اهتزاز ثقته بنفسه سببا في الخوف من الفشل وعدم إثبات جدارته بين زملائه, وعدم ثقته بنفسه تجعله يخشي سخريتهم وبالتالي ينسحب من المجتمع.
والعلاج
لعلاج الانطوائية عند الأطفال ينبغي توفير المناخ الهادئ للأطفال في البيت, مع عدم تعرضهم للمواقف التي تؤثر علي نفوسهم, وتشعرهم بالقلق والخوف, وعدم الاطمئنان, كما ينبغي تجنب القسوة في معاملتهم لأن ذلك يجعلهم في حالة قلق وخوف فيخشون الاختلاط بالآخرين ويفضلون الانطواء, وعدم مواجهة الحياة بثقة… كما ينبغي علي الأم إخفاء قلقها الزائد ولهفتها علي طفلها مع إتاحة الفرصة له للاعتماد علي نفسه, ومواجهة مواقف الحياة بهدوء وثقة, فكل إنسان لديه غريزة طبيعية يولد بها وتدفعه إلي المحافظة علي نفسه وتجنب المخاطر, فالطفل يستطيع المحافظة علي نفسه أمام الخطر بغريزته الطبيعية التي تدفعه إلي التمسك بالحياة… كما يجب علي الأم أن تتيح للطفل حياة اجتماعية مناسبة له حتي يلتقي بأبناء جيله ويكتسب من صداقتهم الشعور بوجوده وإنسانيته, لأن ذلك يولد لديه الشعور بالسعادة والثقة ويحميه من الانطواء والخوف.
فالإنسان الذي تتاح له في طفولته فرص الاستمتاع بالحياة السليمة وتهيأ له أسباب الاختلاط بالناس والصداقات السوية, من المستحيل أن يصاب بالاضطراب النفسي أو العقلي, فوجوده خارج البيت بين أقرانه ومشاركته أبناء جيله وممارسة الأنشطة المختلفة تزوده بالطمأنينة النفسية.