متابعة المشهد الأمريكي تحمل معها الكثير من الرمزية. رمزية تصالح أعداء الأمس من أجل هدف أسمي, ورمزية توحيد حزب ديموقراطي أعضاؤه بعشرات الملايين, ورمزية بروز أوباما بصفته أول أمريكي من أصل أفريقي يصل إلي المرحلة الأخيرة في انتخابات الرئاسة. إن خطاب أوباما في ختام أعمال مؤتمر الحزب الديموقراطي أمام حشد من 58 ألف مواطن كان حدثا تاريخيا لم تشهد الحملات الانتخابية السابقة مثيل له. هذا الحشد شكل رسالة كبيرة للحزب الجمهوري والقوي المنافسة للديموقراطيين. ولكن خطاب أوباما كان هو الآخر متميزا في طرحه لبرنامجه, ولرؤيته للولايات المتحدة وكيفية تميز عهده في السياسة الداخلية والخارجية. لقد حرك أوباما الحاضرين الخمسة وثمانين ألف كما لم يحركهم زعيم أمريكي يترشح للرئاسة من قبل, إن قدراته الخطابية ووضوح خطابه وطريقة تعبيره ومضمون كلامه خلقوا حدثا فريدا في السياسة الأمريكية شاهده عشرات الملايين عبر محطات التفلزة في الولايات المتحدة والعالم. و تتواصل هذه الحالة مع تعطش الأمريكيين لشيء جديد ولتغير كبير ووضع مختلف عن ذلك الذي عرفه الأمريكيون مع الإدارة السابقة. بشكل أو بآخر هناك عدة عوامل تؤثر في ثورة أوباما: الاقتصاد الأمريكي وتراجعه الكبير في السنوات الثمان الماضية إضافة إلي تراجع موقع ودور وشرعية الولايات المتحدة علي الصعيد العالمي وشعور الأمريكيين أنهم فقدوا الكثير علي الصعيد العالمي إضافة إلي تنامي دور الأقليات في السياسة الأمريكية.
وتبقي السياسة صانعة للمفاجآت, فحملة أوباما تتقدم الآن وسط جماهيرية كبيرة, وفي ظل وسائل مبتكرة وطرق خلاقة, بينما حملة ماكين هي الأخري تسير إلي الأمام في ظل محاولة للاستمرار بالولايات المتحدة علي ذات الطريق الذي سارت عليه في السنوات الثمان الماضية. فحتي الآن لا يوجد ما يضمن فوز أوباما, ولا يوجد ما يؤكد فوز ماكين, فالفرص ستتساوي في هذه الانتخابات بين الاثنين, كما أن كل شيء متوقف علي تكتيكات كل فريق واستراتيجيته الانتخابية في الولايات الكبيرة والصغيرة التي يتنازع الاثنين عليها, كما أن كل شيء متوقف علي الناخب ونفسيته وشعوره يوم الانتخاب: فهل يصوت لتغير كبير أم لتغير محدود علي الصعيد العالمي والمحلي والاقتصادي وهل يشارك الشباب والأقليات بفعالية أم يتركون الأمر للقوي المحافظة. وتحت كل الظروف ستكون الانتخابات الأمريكية معركة كبري تخاض في كل مدينة ومنطقة من أجل صوت هنا وأصوات هناك, ولن تحسم المعركة إلا بفارق ضئيل بالأصوات.
أنصار أوباما يؤيدونه إلي أبعد الحدود, فالكاريزما التي يتمتع بها والقدرات الاستراتيجية تجعل أنصاره مؤيدين له بعاطفة قوية وبحماسة كبيرة. أما ماكين فمن معه يؤيدونه خوفا من البديل واحتراما لتاريخه السياسي والقتالي العسكري وليس بالضرورة تأثرا بشخصيته وقدراته علي التعبير. الفارق بين الرجلين ماكين وأوباما أساسي. فأوباما يأتي من خارج الدائرة السياسية الضيقة ومن خارج النخبة الأمريكية التقليدية التي تفرز الرؤساء , فهو يأتي من القاعدة بينما ماكين يمثل النخبة التقليدية في العاصمة الأمريكية التي اعتركت العمل مع الإدارات المختلفة ومع الأجهزة والأمن والجيش والكونجرس والقاعدة الانتخابية. لهذا فهناك فارق بين مناخ أوباما السياسي وطبيعة الذين يدعمونه ويرون فيه التغير الكبير وبين المناخ الذي يحيط بماكين والذين يدعمونه.
إن الولايات المتحدة تستحق أن يرأسها شخص بقدرات أوباما يأتي من خارج الدائرة الضيقة التي مازالت تري العالم بعيون الحرب الباردة. أليس هذا أحد أهم أسس الديموقراطية, فعوضا عن لجوء المعارضة للانقلابات والثورات, تقع الثورة ويقع الانقلاب بالوسائل الديموقراطية والسلمية في ظل القوانين والدستور والحقوق ولفترة مؤقتة مدتها أربع سنوات؟ أليس أساس الديموقراطية أن تتبدل النخب القديمة بأخري جديدة, والجيل السابق بالجيل الجديد؟ أليس أساس الديموقراطية المقدرة علي التجديد والتغير مع تأمين الحماية والحقوق للفريق الذي يخسر في الانتخابات؟ إن انتخاب أوباما سيكون لصالح الفرد الأمريكي وذلك لما هو معروف عن برنامجه الذي يقضي بالتعامل مع المسألة الاقتصادية, والتخفيف من مخاطر تكاليف الحروب علي الميزانية الأمريكية. لقد صرفت أمريكا في العراق وأفغانستان مئات المليارات التي كان من الممكن استثمارها بالتعليم والصحة والتنمية الأمريكية, فأوباما سيكون حاسما في سرعة التحرك بهدف عدم التورط في حروب متسرعة وسياسات غير مدروسة وبالتالي عدم تحميل الولايات المتحدة عبء احتلال دائم للعراق. إن انتخاب أوباما رئيسا سيكون من جهة أخري سابقة تاريخية تؤسس لعلاقة جديدة بين الأعراق المختلفة في الولايات المتحدة وفي العالم, سيتحول نجاح أوباما لمثل علي الصعيد العالمي لأنه سيكون قد تعامل مع واحدة من أعقد المسائل في العلاقة بين الأعراق وفي بناء التغير.
[email protected]
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت
* نقلا عن شفاف الشرق الأوسط