ثلاثة أحداث أو مواقف فكرية مهمة حصلت خلال فترة زمنية قصيرة, لا يجمعها إلا خيط فكري واحد هو نزع الغطاء الشرعي أو السند الديني لأعمال العنف الإرهابي, وأصحاب الفكر المتطرف الذين يتذرعون ويتمسحون بالشريعة لتبرير أعمالهم العدوانية وفتاواهم المتشددة.
الحدث الأول هو فتوي الشيخ الدكتور محمد طاهر القادري ضد المفجرين الانتحاريين. والشيخ القادري عالم دين إسلامي من باكستان, له أتباع وتلاميذ ومؤسس ##جمعية منهاج القرآن## التي تنتشر فروعها في باكستان وبريطانيا. أصدر القادري فتواه في مؤتمر صحافي بلندن يوم 2/3/2010 بالإنجليزي, وقال ##إن الإرهابيين أعداء الإسلام, والانتحاريين ليسوا شهداء كما يدعون, بل لن يدخلوا الجنة ولن يشموا ريحها, ولن تكتحل عيونهم برؤية الحور العين, بل سيخلدون في جنهم وبئس المصير##. تعد هذه الفتوي أقوي وأشمل فتوي في تاريخ تحريم وتجريم العمليات الانتحارية, سواء ضد المسلمين أو غيرهم, لأنها حازمة وقاطعة في رفض كافة ذرائع وتبريرات الإرهاب, وهي بذلك تختلف عن الفتاوي الضبابية لبعض المشايخ في المنطقة والتي تحاول إمساك العصا من الوسط, فهي إذ تدين العمليات الانتحارية ضد المدنيين فإنها تستثني حالات أخري تراها مشروعة بحجة أن المستهدفين محتلون أو يتعاونون مع المحتل بل, وتبررها سياسيا وتعد العمل الانتحاري ضد العدو ##أسمي أنواع الجهاد##! وأكثر هؤلاء المشايخ المبررين للأعمال الانتحارية هم دعاة الإسلام السياسي الذين يتباهون بأنه إذا كان العدو يملك القنابل النووية, فالمسلمون يملكون القنابل البشرية!
فتوي الشيخ القادري لا تمسك العصا من الوسط ولا تستثني, فكافة الأعمال الانتحارية محرمة ومجرمة, وقد صدرت في 600 صفحة مدعومة بالنصوص الدينية وبأقوال أئمة السلف.
وإذ تؤكد الفتوي براءة الإسلام من التفجيرات الانتحارية, تقرر -أيضا- أن المتورطين فيها خارجون عن ملة الدين, وأن بن لادن والظواهري ومنظري ##القاعدة## هم ##خوارج اليوم## الذين يشتركون مع خوارج الأمس في 10 نقاط بدءا من سطحية الفكر وعنف العداوة وترويع الآمنين إلي الملبس, وطول اللحية.
ودوافع الشيخ القادري لإصدار الفتوي المذكورة, تمثلت في ثلاثة أمور:
أ- حماية الشباب المسلم من الانجراف إلي الفكر المتطرف, وبخاصة بين أبناء الجالية الآسيوية في بريطانيا (7 ملايين مسلم غالبيتهم من أصول باكستانية).
ب- ندرة إدانة التطرف من جانب العلماء رغم آلاف الضحايا الذين يسقطون سنويا بسبب أعمال ##القاعدة##, فحتي الآن لا نجد تصديا صريحا من قبل المجامع الفقهية بفتوي جماعية قاطعة ضد العمليات الانتحارية, الفكر الديني يستشري في الساحة وبعض الشباب يتحولون إلي قابل ذرية والعلماء والمسؤولون لا يقومون بواجبهم في إنقاذ الشباب من غزو الفكر المتطرف.
ج- تصحيح صورة الإسلام والمفاهيم الدينية التي شوهها هؤلاء المفجرون الذين يتفاخرون بأنهم أبطال الأمة وهم في الحقيقة أبطال الجحيم كما يقول الشيخ.
أما الحدث أو الموقف الثاني فهو مؤتمر ماردين بتركيا, وقد عقد بحضور 15 عالما لمناقشة الفتوي الشهيرة لابن تيمية في أهل ماردين, وهي بلدة في شمال تركيا سكنها مسلمون واستولي عليها المغول قبل 7 قرون, وسئل ابن تيمية عنها: هل هي دار حرب أم دار إسلام؟ وهل يجوز الجهاد فيها؟ هذه الفتوي ظلت غطاء شرعيا للجماعات الإرهابية في عملياتها وفي تكفير المسلمين والخروج علي الأنظمة السياسية واستباحة الأموال والدماء, لكن مؤتمر ماردين أسقط حجة هؤلاء وجرد الفتوي من توظيفها لتبرير العمل الإرهابي, وبين العلماء أن تقسيم العالم إلي دار حرب ودار إسلام أصبح في ذمة التاريخ, لا علاقة له بالشريعة, ولا محل له في عالم اليوم حيث الدول الإسلامية ملتزمة بمعاهدات دولية وبميثاق الأمم المتحدة فضلا عن قيام الدولة الوطنية علي أساس الدستور الذي يساوي بين المواطنين. ويتصل بهذا الأمر الجدل المثار في السعودية حول مفهوم ##السلفية##, ولعل الحوار الذي أجري مع الدكتور زيد الفضيل (##الحياة## 9/4) حول ##مرجعية فهم السلف## يعد تطورا مهما في الفكر السلفي المعاصر, حيث يؤكد الفضيل أن المرجعية للقرآن والسنة وأن إلزامنا بمفهوم وحيد للسلف هو عين الخطأ الذي وقعنا فيه. فالنصان, القرآني والنبوي, عابران للزمان والمكان, لكن الأفهام البشرية مرتبطة بزمانها وبيئتها, ونحن مكلفون اليوم أن نفهم من القرآن والسنة وفق زماننا, ونضيف إلي ذلك أن وزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية تنظم برامج شهرية للخطباء والأئمة والدعاة, لمكافحة الفكر المتطرف.
وأخيرا يتمثل الموقف الثالث, في المقترح المهم الذي قدمه الدكتور زهير الحارثي, عضو مجلس الشوري السعودي, ويطالب فيه بسن تشريع يجرم فتاوي التكفير الصادرة من خارج المؤسسة الدينية الرسمية, وذلك بهدف وضع حد لهذه الفتاوي التي أخذت في الازدياد في الآونة الأخيرة ووصلت إلي حد ##المساس بمبدأ الدين وقيمه وروحه وقيمة الوحدة الوطنية, والانتقاص من هيبة نظام الدولة, والتأثير علي العلاقات الخارجية التي تربط السعودية بدول العالم##. وقال الحارثي: ##إن علي مجلس الشوري أن يتحرك لحفظ دماء المسلمين وحماية الشريعة الإسلامية من التشويه##, مؤكدا أن ##إصدار هذا التشريع أصبح ضرورة##, وأن السكوت عن تنامي ظاهرة فتاوي التكفير هو ##جريمة بحق الوطن##, واصفا الفتاوي بأنها أصبحت ##بازارا## تتقاسمه قواسم مشتركة مثل إهدار الدم, وتكفير الآخرين, وتكريس قيم الإقصاء. ويذكر أن المجلس قد تفاعل مع المقترح, وقد نشرت الصحف أن ##هيئة كبار العلماء## في السعودية شرعت في بحث موضوعين مهمين هما: تمويل الإرهاب وفتاوي التكفير. ولا شك أن هذه التحركات تمثل خطوات صحيحة في طريق الإصلاح الديني المنشود لحماية شبابنا من غواية الفكر المتطرف ولتحصينهم وتقوية مناعتهم تجاه أمراض الفكر العدواني.
إن التكفير وقتل النفس وترويع الآمنين من أعظم الكبائر التي حرمها ديننا تحريما جازما, ومن يفجر نفسه فهو خالد في النار لا يشفع له أنه أراد الثأر لكرامة المسلمين والعزة والنصرة, هذه شعارات المفلسين, يهلكون أنفسهم ولا يضرون العدو شيئا, لقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أستاذ الشريعة بجامعة قطر