بينما كانت عمليات التصويت في استفتاء مصير الجنوب السوداني تتواصل وسط مسيرات الفرح والرقص والأغاني ونحر الذبائح والتي شارك فيها 4 ملايين ناخب جنوبي وقد أصبحت النتائج محسومة, كان بعض العرب يتظاهرون بالحزن رفضا للانفصال وتهويلا لما يأتي بعده, ويتهمون المخططات الخارجية بالتآمر علي تقسيم السودان في مسلسل لتمزيق الدول العربية وتفتيتها إلي دويلات بهدف استدامة الهيمنة واستنزاف موارد ومقدرات المنطقة وخدمة لإسرائيل, يقولون: العراق أصبح في حكم المقسم عمليا إلي 3 أجزاء البعض منها واضح الولاء لإسرائيل والأكراد متمسكون بحق تقرير المصير ويبنون كيانهم المنفصل بشكل تدريجي ومرهون بما يسفر عنه رحيل الأمريكيين, والسودان ليس في طريقه للتقسيم للشمال والجنوب وحسب فهناك مشكلتا دارفور وشرق البلاد مما يمهد لتقسيمه إلي 4 دويلات.
أما اليمن فشبح الانفصال مخيم بين الشمال والجنوب وبين الحوثيين والدولة, وهناك الحركات الانفصالية الأمازيغية في الشمال الافريقي أما الصومال فهي مقسمة بالفعل واستقلت حماس بدويلة غزة في انقلابها الدموي علي السلطة وقد مضي 4 أعوام واستعصت كافة محاولات المصالحة الوطنية وتحولت اليوم إلي حماية لحدود إسرائيل من قذائف الفصائل الرافضة للتهدئة.
أما لبنان فإن حزب الله قد شكل دويلته التي هي أقوي من الدولة, قد يكون فيما يقوله هؤلاء بعض الصحة لكن المشكلة الأساسية أن هؤلاء ينشغلون بتحميل الخارج مسئولية أوضاعنا المتردية بأكثر من مسئولية الداخل, هؤلاء يتجاهلون جذور النزاعات العربية ويتغافلون عن ارهاصاتها المبكرة فالجنوبيون لم يختاروا الانفصال حبا فيه بل اضطرارا بعد معاناة ومآس رهيبة علي امتداد خمسة عقود راح ضحيتها أكثر من مليوني سوداني سقطوا في حروب أهلية وحشية عبثية غير ملايين – اللاجئين وكلفت السودان العديد من المليارات إلي أن أدرك الطرفان أنه لا طائل من استمرار التحارب فاتفقا بعد محادثات مضنية عبر الوسيط الأميركي عام 2005 في اتفاق نيفاشا علي اعطاء الجنوبيين الحكم الذاتي لمدة 5 سنوات يقررون بعدها مصيرهم عبر إجراء استفتاء عام, لذلك لا يمكن تعليق ما يحصل اليوم من توجه الجنوبيين للانفصال علي مشجب المؤامرة الدولية, فمطالب الجنوبيين بالاستقلال قديمة وليست وليدة اليوم كما لا يعقل أن هذه الملايين التي قرروا الانفصال متآمرون أو هم ضحايا مؤامرة أجنبية.
هؤلاء الذين ينساقون وراء أوهام التآمر الخارجي المسيطرة علي عقولهم ونفوسهم ويفسرون كل حدث في الساحة بأنه من تدبير الموساد والأعداء المتربصين بالعرب هم في الحقيقة ضحايا النفخ الإعلامي الذي يصور العالم متآمرا ضد الإسلام, فلا غرابة أن ينساق بعض المشايخ و العلماء وراء تلك الأوهام ليحشروا أنفسهم في القضية, إذ ذكرت الأنباء أن هناك 70 من علماء الدين أصدروا فتاوي بتحريم التصويت لصالح انفصال الجنوب حفظا لكيان السودان الموحد ! لكن هذه الفتاوي ومع تقديرنا للمشايخ هي في النهاية فتاوي سياسية تثير اشكاليات مربكة ولا تحل قضية, ولعلنا نتذكر الفتاوي التي حرضت شبابنا للذهاب للعراق لمقاتلة الأمريكيين بحجة الجهاد, لقد أضرت بالعراقيين وأهدرت أرواح الآلاف من الأبرياء وأودت بزهرة شباب المسلمين أودت إلي الهلاك من غير أي هدف محقق ! الإشكاليات التي تثيرها فتاوي تحريم التصويت لصالح الجنوب عديدة.
أولا: إن المفتي يجهل حقيقة وأبعاد و تاريخ القضية التي أفتي فيها, كل معرفته أن هناك مؤامرة خارجية تستهدف المسلمين في السودان لأنها ملتزمة بتطبيق الشريعة بقيادة حكومة إسلامية, لكنه لا يدرك أن هناك تاريخا طويلا من الحروب الطاحنة التي قتلت وشردت الملايين و استنزفت السودان حتي أصبح بوضعه المتردي حاليا, والسؤال الذي يجب طرحه علي المفتي هنا : لماذا لا ندرأ بالانفصال الودي أخطار وكوارث الاقتتال, بل حتي الطلاق الذي هو أبغض الحلال يتعين إذا كان محققا لحل الخلافات وقاطعا للمشاحنات . ثانيا : إذا كان ثمة تحريم في التصويت للانفصال فالأولي أن يوجه إلي الرئيس السوداني المسلم الحريص علي أحكام الشريعة والذي وافق علي اتفاق نيفاشا قبل خمس سنوات وأعطي المواطن الجنوبي حق تقرير المصير, إذ لا مسئولية دينية علي الناخب أعطاه رئيسه حق الاختيار! ثالثا : أين كانت هذه الفتاوي طوال خمس سنوات ؟ لماذا لم يتطوع السادة العلماء ليذهبوا لمواجهة الرئيس السوداني ليقولوا له بحرمة هذا الاتفاق الممهد للانفصال ؟! رابعا: لا معني لمنح حق تقرير المصير إذا كان الناخبون المصوتون سيلتزمون بفتاوي التحريم لأنهم في الحقيقة, في هذه الحالة, لا يملكون حق تقرير المصير فعلا لأنه قد تقرر سلفا بناء علي فتوي تحريمية فلماذا يذهبون للتصويت أصلا ؟! خامسا : كيف يتصور السادة المفتون أن الملايين الـ4 سيلتزمون فتاواهم و الغالبية منهم غير مسلمين؟ أي لا يعترفون بهم أصلا, بل حتي المسلمون منهم في الشمال أو الجنوب لن يلتفتوا لفتاواهم لأنهم يرون مصلحتهم في الانفصال درءا لأخطار الحروب و النزاعات الدامية, ولا أدل من أن مسلمي الجنوب أكدوا أنهم مع الانفصال إذ لا خشية عليهم في الجنوب حيث التسامح الديني والدستور الكافل لحرية الأديان وأما في الشمال فقد ذكر الكاتب عثمان ميرغني : إن فرحة الجنوبيين بالانفصال قابلتها فرحة في أوساط محسوبة علي النظام في الخرطوم, فقد كتب خال الرئيس عمر البشير, الطيب مصطفي مقالا يدعو فيه الشماليين للفرح ونحر الذبائح وإقامة صلاة الشكر لأن الاستفتاء كان يوم فكاك الشمال ! سادسا : لا أدل علي عدم جدية هذه الفتاوي السياسية بل عدم مصداقيتها الدينية أن الرئيس السوداني عمر البشير الحريص علي تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود الشرعية أعرب بنفسه عن استعداد حكومته للمشاركة في احتفالات الدولة الجديدة المحتملة ! بل صرح في زيارته للجنوبيين في جوبا الذين استقبلوه بالفرح و الزغاريد وبلافتات تقول: مرحبا بكم في الدولة رقم 193, إذ قال: سأكون حزينا .. لكنني سأحتفل معكم إذا اخترتم الانفصال ! فإذا كان التصويت للانفصال محرما بحسب الفتاوي الدينية فالأولي أن تكون مشاركة الرئيس السوداني في احتفالات الانفصال أشد تحريما ! سابعا: أيهما أعظم تحريما: انفصال غزة بالقوة الانقلابية و انفراد حماس بحكمها وتكوين دويلة هزيلة تقوم بقمع الفصائل التي تقذف المستوطنات الإسرائيلية ولا تريد أن تلتزم بالتهدئة أم انفصال جنوب السودان بالتراضي والاتفاق الودي بعد حروب كلفت السودانيين الأرواح والموارد ؟! لماذا لم نسمع من السادة أهل الإفتاء المتحمسين لوحدة الكيان الإسلامي والرافضين للمشاريع الانفصالية التفكيكية باعتبار أن دولة الإسلام واحدة, لماذا لم نسمع منهم أية فتوي بتحريم ما عملته حماس في انقلابها الدموي علي السلطة الفلسطينية و استقلالها بحكم غزة كدويلة انفصالية أصبحت تشكل انقساما فلسطينيا حادا ؟! أم أن ذلك حلال لحماس الإسلامية وحرام علي الجنوبيين المسيحيين ؟! ثامنا لماذا يسيء السادة المشايخ والعلماء أهل الإفتاء الظن بالآخرين, لماذا دائما يتوقعون الأسوأ ؟لماذا لا يتصورون أن هذا الانفصال قد يمهد لدولتين جارتين بينهما علاقات ودية وتعاون مشترك في كافة المجالات التي تعود بالخير و النفع علي الشعبين ؟! لقد ذكرت الأنباء أن هناك مشروعا دوليا إفريقيا سيقدم لقادة الشمال والجنوب يتضمن مقترحا بإقامة اتحاد اقتصادي ونقدي وتعاون مشترك, أشبه بكونفدرالية, ويقضي بأن تبادر الخرطوم أولا بالاعتراف باستقلال دولة الجنوب قبل الآخرين فور إعلان نتيجة الاستفتاء ويتم تأسيس نظام شراكة اقتصادية أشبه بصيغة الاتحاد الأوربي وسيكون نواة لاتحاد موسع يشمل دولا مجاورة للسودان ويحقق بيئة سياسية صالحة للحوار والتفاهم و السلام والاستقرار في منطقة الجنوب المضطربة, دعونا نستبشر بالسودان الجديد, السودان الحر الديموقراطي الذي يقوم علي التنوع الثقافي والديني ويشكل نموذجا للتعايش بين أتباع الأديان والقبائل المختلفة, لا داعي للتهويل من تداعيات انفصال الجنوب السوداني وتضخيم التنبؤات السلبية فإن الأمور تجري بسلاسة وهدوء في تجربة فريدة علي مستوي العالم كله, ولقد أشار الرئيس البشير نفسه إلي هذا الأمر حينما قال: إن الشعب السوداني شعب متحضر وسيخذل كل التوقعات بحدوث اعمال عنف. وهذا هو ما يحصل بالفعل.